|categories

(15) بيع التقسيط

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نتحدث معكم في هذه الحلقة عن بيع التقسيط، وما يتعلق بذلك من مسائل وأحكام.

صورة بيع التقسيط وحكمه

فنقول وبالله التوفيق: بيع التقسيط صورته: أن يبيع رجلٌ بضاعة أو سلعة من السلع إلى أجل، أو بأقساط معلومة، ويزيد في قيمة البضاعة مقابل الأجل.

مثال ذلك: سيارة قيمتها نقدًا خمسون ألف ريال، أراد رجلٌ أن يشتريها بالتقسيط لمدة سنة بستين ألفًا، يسدد منها كل شهر قسطًا بخمسة آلاف ريال، فما حكم هذا البيع؟

الجواب: لا بأس به عند أكثر أهل العلم، بل قد حُكي الإجماع على جوازه، كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح.

الأدلة على جواز بيع التقسيط

ومما يدل للجواز قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] ولم يشترط سبحانه أن تكون المُدَاينة بسعر الوقت الحاضر.

ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم رسول الله المدينة، والناس يُسلفون في الثمر السنة والسنتين والثلاث، فقال رسول الله : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم [1]، ولم يشترط النبي  أن يكون ذلك بسعر الوقت الحاضر.

ويدل لذلك أيضًا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي أمره أن يجهّز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة [2].

ويدل لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين في قصة بريرة رضي الله عنها حيث اشترت نفسها من سادتها بتسع أواقٍ في كل عام أوقية، وهذا نوعٌ من بيع التقسيط، ولم ينكر ذلك النبي بل أقرّه. [3].

ويدل لذلك أيضًا ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل فرهنه درعه [4].

ولأن أمور التجارة لا تستقيم إلا على ذلك، فإن سعر السلعة إذا بيعت نقدًا يختلف عن سعرها إذا بيعت بثمنٍ مؤجَّل عند عموم العقلاء، وفي إباحة زيادة قيمة السلعة مقابل الأجل مصلحةٌ لكلٍ من البائع والمشتري، فالبائع ينتفع بالربح، والمشتري ينتفع بالإمهال والتيسير.

ثم إنه ليس كل أحد يستطيع أن يشتري حوائجه نقدًا، فلو مُنعت الزيادة في المداينة لكان في ذلك حرجٌ كبير على كثير من الناس، لا سيما وأنّ الأصل في باب المعاملات هو الحِلُّ والإباحة، والشريعة الإسلامية الكاملة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

ولكن ينبغي لمن يبيع بالتقسيط ألا يستغل حاجات إخوانه المسلمين، فيزيد عليهم في الربح زيادة فاحشة، وقد ورد في سنن أبي داود عن علي قال: “نهى رسول الله عن بيع المضطر” [5]؛ وهذا الحديث وإن كان في سنده ضعف إلا أن الأصول والقواعد الشرعية تدل على كراهة استغلال الإنسان حاجة أخيه واضطراره، وزيادة أخذ الربح عليه زيادة فوق المعتاد.

حكم جعل الربح بالنسبة في بيع التقسيط

ثم إنه ينبغي لمن يبيع بالتقسيط أن يجعل الربح مقطوعًا، ولا يجعله بالنسبة، أيْ أنه يقول مثلًا: أبيعك هذه السيارة بخمسين ألف ريال، وربح خمسة آلاف ريال، ولا يقول: أبيعك هذه السيارة على أن أربح في كل عشرة آلاف ألفًا؛ فإنه قد ورد عن بعض السلف كراهة ذلك.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “المرابحة أن يبيعه بربحٍ، فيقول: رأس مالي فيه مائة وربح عشرة، هذا جائزٌ لا خلاف في صحته، ولا نعلم أحدًا كرهه”، قال: “وإن قال: على أن أربح في كل عشرة درهمًا، فقد كرهه أحمد، ورويت فيه الكراهة عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُعلم لهما في الصحابة مخالف، ورويت كراهته كذلك عن الحسن البصري، ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار رحمهم الله تعالى”.

ووجه الكراهة شبهه ببيع دراهم بدراهم، قال الإمام أحمد: “كأنه دراهم بدراهم”.

ولكن هذا المروي عن بعض السلف، إنما هو مكروهٌ مجرد كراهة، لا أنه محرم؛ ولذلك قال الوزير بن هبيرة رحمه الله: “اتفقوا على أن ربح المرابحة صحيح، وهو أن يقول: أبيعك والربح في كل عشرة درهم، وكرهه أحمد لشبهه بيع العشرة بأحد عشر، لا أنه منه حقيقة وإلا لحرُم”.

حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء

هذا ما يتعلق ببيع التقسيط، وظاهره مما سبق أنه بين طرفين فقط.

ولكن ما الحكم فيما لو طلب شخصٌ من آخر، أو من مؤسسة، أو من مصرفٍ أن يشتروا له سلعة معينة، ثم يشتريها منهم بالتقسيط، هذه المسألة يسميها بعض المعاصرين ببيع المرابحة للآمر بالشراء.

وقبل أن نتكلم عن حكمها الشرعي نضرب مثلًا لتتجلى به صورة المسألة، فنقول: هذا رجلٌ يريد سيارة معينة، وليس عنده نقدٌ يشتري به هذه السيارة، فذهب إلى مؤسسة، وطلب منها أن تشتري له تلك السيارة، ثم يشتريها هو من المؤسسة بالتقسيط، فما حكم هذا العمل؟

حالات بيع المرابحة للآمر بالشراء

نقول: لا يخلو الأمر من حالين:

  • الحال الأولى: أن يتفق ذلك الرجل على أن تقوم تلك المؤسسة أو المصرف بشراء تلك السلعة المعينة، ثم بيعها عليه بالتقسيط، فهذا محرّم؛ لأن هذا الاتفاق هو في الحقيقة عقد؛ لأنه يتضمن اتفاقًا بين إرادتين على إنشاء حق، وإذا كان عقدًا، فتكون تلك المؤسسة، أو المصرف قد باع ما لا يملك، وقد قال النبي : لا تبع ما ليس عندك [6].
    ثم إنه حيلةٌ على الإقراض بفائدة، فكأن هذه المؤسسة أو المصرف قد أقرضت هذا الرجل قيمة هذه السيارة، مع فائدة معينة، وقد جعلت هذا البيع الصوري حيلة على ذلك القرض المحرّم، وقد أشار بعض الفقهاء المتقدمين إلى ذلك.
    قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “إذا طلب رجلٌ من آخر سلعة يبيعها منه بنسيئة، وهو يعلم أنها ليست عنده، ويقول له: اشترها من مالكها هذا بعشرة، وهي عليَّ باثني عشر إلى أجل كذا، فهذا لا يجوز؛ لأن معناه: أنه تحيّل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، بينهما سلعة محلِّلة”، وأقول: إن هذا مع الأسف هو واقع كثير من البنوك اليوم، حيث يجرون عقود بيوع التقسيط على سلعٍ لم يتملّكوها بعد.
  • الحال الثانية: ألا يحصل تعاقد سابق بين ذلك الرجل وبين تلك المؤسسة أو المصرف على إتمام عملية الشراء، وإنما الذي يحصل هو مجرد وعدٍ من تلك المؤسسة أو المصرف بأنه إذا اشترى تلك البضاعة فسوف يبيعها لذلك الرجل، ووعدٌ من ذلك الرجل بأنه سوف يشتري تلك البضاعة، فهذا يجوز بشرطين:
    • الشرط الأول: أن يكون الاتفاق بينهما مجرد وعدٍ بالبيع ووعدٍ بالشراء، وهذا الوعدُ غير ملزمٍ لكلٍ منهما، فلكلٍ من المؤسسة، أو ذلك المصرف؛ وذلك الرجل، لكلٍ منهما الحريّة في إتمام ذلك البيع، أو الإعراض عنه، ويترتب على ذلك أن تكون تلك السلعة، أو البضاعة لو تلفت قبل تسلُّم ذلك الرجل لها فهي من ضمان تلك المؤسسة أو المصرف.
      ومن المعلوم: أن هناك فرقٌ بين العقد وبين الوعد، فالعقد ارتباطٌ منجّز، وأما الوعد فهو مجرّد إبداء الرغبة في الشيء.
    • الشرط الثاني: ألا يقع العقد بينهما إلا بعد قبض تلك المؤسسة، أو المصرف للسلعة، أو البضاعة، واستقرارها في ملكه، وإذا تحقق هذان الشرطان فلا مانع من جواز هذه العملية.

وقد قرّر ذلك مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس، وجاء في القرار: المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين، تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما، أو أحدهما، فإن لم يكن هناك خيارٌ فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يُشترط حينئذٍ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفةٌ لنهي النبي  عن بيع ما ليس عنده.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604.
^2 رواه أبو داود: 3357، وأحمد: 6593.
^3 رواه البخاري: 2168، ومسلم: 1504.
^4 رواه البخاري: 2200.
^5 رواه أبو داود: 3382.
^6 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232، وابن ماجه: 2187، والنسائي: 4613، وأحمد: 15311، وقال الترمذي: حديث حسن.
مواد ذات صلة