الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(16) النصوص الواردة من الكتاب والسنة في تحريم الربا
|categories

(16) النصوص الواردة من الكتاب والسنة في تحريم الربا

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خليله ونبيه نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد تكلمنا في حلقات سابقة عن أحكام البيع، وما يتعلق به من مسائل، وننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن بابٍ هو من أهم أبواب الفقه، وجديرٌ بالمسلم أن يتفقه في مسائله وأحكامه، خاصة في زمننا هذا الذي قد فشا فيه فشوًّا كبيرًا.

حديثنا أيها الإخوة عن الربا الذي هو من السبع الموبقات، وسوف نتكلم إن شاء الله في الحلقات المقبلة عن أحكام ومسائل الربا، وأما هذه الحلقة فلعل من المناسب أن نتكلم عمّا ورد في الربا من النصوص من الكتاب والسنة.

نصوص القرآن في تحريم الربا وبيان حال المرابين

فنقول: الربا من كبائر الذنوب، ومن السبع الموبقات، وقد حرّمه الله ​​​​​​​ في جميع الشرائع السماوية، وأخبرنا سبحانه في محكم كتابه أنه حرّم الربا على اليهود؛ ولكنهم خالفوا، فأخذوا الربا وقد نُهوا عنه، يقول الله ​​​​​​​: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ۝وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161].

وقد وردت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة محذّرةً من الربا، محذّرةً منه أشد التحذير، ومبيّنةً عظيم إثمه عند الله ​​​​​​​.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن الربا قد جاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره”.

وقد ذكر الإمام القرطبي رحمه الله في كتابه “الجامع لأحكام القرآن” لما تكلم عن آيات الربا، ذكر عن الإمام مالك قصةً رحمه الله، قال الإمام القرطبي: “جاء رجلٌ إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبدالله، إني رأيتُ رجلًا سكرانًا يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر -أي من شدة سكره-، فقلت: امرأتي طالقٌ إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر، فقال الإمام مالك: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال الإمام مالك: امرأتك طالق؛ إني تصفّحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئًا أشرّ من الربا، لأن الله قد أذن فيه بالحرب”.

وقد بيّن الله ​​​​​​​ في كتابه الكريم أن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ أيْ: من قبورهم عند البعث إِلَّا كَمَا يَقُومُ المصروعُ حال صرعه؛ وذلك لتضخم بطونهم بسبب أكلهم الربا في الدنيا، يقول الله ​​​​​​​: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “أيْ: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبّط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قيامًا منكرًا”.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “آكل الربا يُبعث يوم القيامة مجنونًا يُخنَق”.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: “جعل الله تعالى هذه العلامة لأكَلَة الربا؛ وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون، ويقال: إنهم يُبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى، وكلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم”.

وقال بعض العلماء: إنما ذلك شعارٌ يُعرفون به يوم القيامة، ثم العذاب من وراء ذلك، كما أن الغالّ يجيء بما غلّ يوم القيامة بشهرة يشتهر بها، ثم العذاب من وراء ذلك.

كما توعد الله ​​​​​​​ الذي يعود إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه بقوله: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، وأخبر سبحانه بأنه يمحق الربا، فقال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “يخبر تعالى أنه يمحق الربا، أيْ: يُذهبه، إما بأن يذهب بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذّبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة”.

فأموال المرابي -أيها الإخوة- مهما كثرت فهي ممحوقة البركة، بإخبار ربنا ​​​​​​​؛ ولذلك فإن أموال المرابي إما أن يسلّط الله عليها من الآفات ما يذهبها، وإما أن تبقى في يد صاحبها، ولكن لا بركة فيها، صاحبها محرومٌ منها لا ينتفع بها في الدنيا ولا في الآخرة، بل هي وبالٌ على صاحبها، تعبٌ في الدنيا، وعذابٌ في الآخرة.

وقد وصف الله تعالى المرابي بأنه كفّارٌ أثيم، فقال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، فأخبر سبحانه أنه لا يحب المرابي، وحرمانه من محبة الله يستلزم أن الله يبغضه ويمقته، وتسميته “كَفّارًا” أيْ: مبالِغًا في كفر النعمة، وهو الكفر الذي لا يخرج من الملة، فهو كفّارٌ لنعمة الله؛ لأنه لا يرحم العاجز، ولا يساعد الفقير، ولا يُنْظِر المعسر، أو أن المراد بـ”كفّار” الكفر المخرج عن الملة إذا كان يستحل الربا، وقد وصفه الله تعالى في هذه الآية بأنه أثيم، أيْ: مبالغٌ في الإثم.

وقد أعلن الله تعالى الحرب منه ومن رسوله على المرابي؛ لأنه عدوٌ لهما إنْ لم يترك الربا، ووصفه بأنه ظالم؛ فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279] ففي هاتين الآيتين جملة من التهديدات عن تعاطي الربا:

  • أولًا: أنه سبحانه نادى عباده باسم الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثم ختم الآية بقوله: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] فدل على أن تعاطي الربا لا يليق بالمؤمن.
  • ثانيًا: أن الله تعالى قال: اتَّقُوا اللَّهَ فدل على أن الذي يتعاطى الربا لا يتقي الله ولا يخافه.
  • ثالثًا: أن الله تعالى قال: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا أيْ: اتركوا، وهذا أمرٌ بترك الربا، فدل على أن من يتعاطى الربا قد عصى أمر الله.
  • رابعًا: أن الله سبحانه أعلن الحرب على من لم يترك الربا، فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أيْ: لم تتركوا الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] أيْ: اعلموا أنكم تحاربون الله ورسوله؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ الآية”.
  • خامسًا: تسمية المرابي ظالمًا؛ وذلك في قوله سبحانه: فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].

النصوص من السنة في تحريم الربا

وقد ورد في السنة نصوصٌ كثيرة فيها التحذير من الربا، وبيان عظيم إثمه عند الله ​​​​​​​، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: “لعن رسول الله آكل الربا، وموكله وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء[1]، واللعن يقتضي الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب : أنّ النبي  قال: أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق انطلق… إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دم، فيه رجلٌ يسبح، وعلى شط النهر رجلٌ بين يديه حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيثغر -أيْ يفتح- له فاه، فيلقمه حجرًا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه ثغر له فاه فألقمه حجرًا، فقلت: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق ثم أخبراه فيما بعد أنه آكل الربا [2].

وعن ابن مسعود : أن النبي  قال: الربا ثلاثٌ وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه [3]، رواه الحاكم وقال: “صحيح على شرط البخاري ومسلم”.

وعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : الربا سبعون بابًا، أدناها كالذي يقع على أمه [4]، قال الحافظ المنذري: “رواه البيهقي بإسنادٍ لا بأس به”.

وعن عبدالله بن حنظلة  قال: قال رسول الله : درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية [5] رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.

وعن ابن مسعود : أن النبي  قال: ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلّوا بأنفسهم عذاب الله [6]، رواه أبو يعلى بإسنادٍ جيد.

وعنه  أن النبي  قال: ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلّة [7]، رواه ابن ماجه والحاكم، وقال: “صحيح الإسناد”.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: “آكل الربا مجرّبٌ له سوء الخاتمة”.

نسأل الله تعالى السلامة والعافية، وأن يجنبنا الربا، وأسباب سخطه، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمّن سواه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1598.
^2 رواه البخاري: 7047، ومسلم: 2275.
^3 رواه ابن ماجه: 2275، والحاكم في المستدرك: 2259.
^4 رواه ابن ماجه: 2274، والبيهقي في شعب الإيمان: 5519.
^5 رواه أحمد: 21957، والدارقطني: 2843، والطبراني في المعجم الكبير: 11216.
^6 رواه أحمد: 3809، وابن حبان: 4487، وأبو يعلى: 4851.
^7 رواه ابن ماجه: 2279، والحاكم في المستدرك: 7892.
مواد ذات صلة