الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(23) أحكام السَّلَم- شروط صحة السلم
|categories

(23) أحكام السَّلَم- شروط صحة السلم

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُمْلةٍ من أحكام السلم، وذكرنا شرطين من شروط صحة السلم، ووعدنا باستكمال الكلام في بقية الشروط في هذه الحلقة، فنقول وبالله التوفيق:

من شروط صحة السَّلَم

الشرط الثالث: ذكر قدر المُسلَم فيه

من شروط صحة السلَم: ذكر قدر المُسلَم فيه؛ فلا يصح السلَم بدون ذكر قدر المُسلَم فيه باتفاق أهل العلم؛ لقول النبي : من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم؛ ولأنه عوضٌ غائب يثبت في الذمة فاشتُرِط معرفة قدره كالثمن، ولا بد من أن يذكر قدره بمعيار معلوم ومعهود عند عامة الناس، كالكيل والوزن والذرع ونحو ذلك؛ لقول النبي : من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم [1]، بل إنه لا بد من تعيين الكيل عند اختلاف المكاييل في البلد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “اشتراط تعيين الكيل فيما يُسلم فيه من المكيل متفقٌ عليه من أجل اختلاف المكاييل، إلا ألا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق”.

وما قيل في الكيل يقال في الوزن والذرع وسائر المعايير؛ وبناءً على ذلك لا يصح ذكر قدر المُسلَم فيه بشيءٍ لم يُعهد عند عامة الناس، كما لو قال المُسلِم للمسلَم إليه: أسلمت إليك بملء هذا الإناء عشر مرات، فلا يصح السلم في هذه الحال؛ لأن هذا الإناء ربما يُفقد فيكون ذلك مظنة لوقوع النزاع بين الطرفين، والشرع قد جاء بسد كل ما يؤدي إلى النزاع بين الناس.

الشرط الرابع: ذكر أجلٍ معلوم له وقعٌ في الثمن

من شروط صحة السلم: ذكر أجلٍ معلوم له وقعٌ في الثمن؛ وبناءً على ذلك لا يصح السلم حالّاً، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة، واستدلوا بقول النبي : من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم [2].

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في بيان وجه الدلالة من هذا الحديث: “أمر النبي -أيْ: في هذا الحديث- بالأجل، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه أمر بهذه الشروط تبيينًا لشروط السلم ومنعًا منه بدونها، ولذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن، فكذلك الأجل..

ولأن الحلول يُخرجه عن اسمه ومعناه؛ أما الاسم: فإنه سُمّي سلمًا وسلفًا لتعجُّل أحد العوضين وتأخر الآخر، وأما المعنى: فلأن السلم يعني تأجيل المسلم فيه وتعجيل رأس المال، وبالحلول لا يكون سلمًا وإنما يكون بيعًا؛ لأن الشارع إنما رخّص فيه من أجل الحاجة إليه، ومع حضور ما يبيعه حالّاً لا حاجة إلى السلم فلا يثبت”.

وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يصح السلم حالّاً، وهو قول ابن المنذر وأبي ثور، وهو مذهب الشافعية؛ لأن السلم عقدٌ يصح مؤجلًا فصح حالًّا كبيوع الأعيان؛ ولأنه إذا جاز مؤجّلًا فحالًّا أجوز ومن الغرر أبعد.

قالوا: وأما قول النبي : من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلوم، ووزنٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم [3]؛ فالمقصود به أنه إذا كان السلم إلى أجل فليكن الأجل معلومًا لا مجهولًا.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة صحة السلم حالًّا إن كان في ملكه.

وقال بعض المحققين: إن الخلاف بين الجمهور والشافعية في هذه المسألة إنما هو خلافٌ في تسمية هذه المعاملة سلمًا، مع عدم وجود الأجل، وإلا فإنها جائزةٌ شرعًا سواء سُمّيت بيعًا أو سُمّيت سلمًا؛ لأنه ليس فيها ربا، وليس فيها غررٌ، وليس فيها ظلمٌ، والأصل في المعاملات الحل والإباحة.

حكم السلم إلى أجل مجهول

ولا يصح السلم إلى أجلٍ مجهول كقدوم زيدٍ من الناس مع عدم معرفة وقت قدومه، ويمثِّل بعض الفقهاء للأجل المجهول في هذا بالحصاد والجذاذ، ورتّبوا على ذلك أنه لا يجوز السلم إلى الحصاد أو الجذاذ.

وذهب جمعٌ من المحققين من أهل العلم إلى صحة السلم إلى الحصاد أو الجذاذ، ويتعلق الحكم بأول الحصاد وأول الجذاذ؛ لأنه في العادة لا يتفاوت كثيرًا فأشبه ما لو قال: إلى رأس السنة، وحينئذ فيكون الحصاد أو الجذاذ أشبه بالأجل المعلوم، ولعل هذا القول الأخير هو الراجح في المسألة. والله تعالى أعلم.

الشرط الخامس: أن يوجد المسلَّم فيه غالبًا في وقت حلول أجله

من شروط صحة السلم: أن يوجد المسلم فيه غالبًا في وقت حلول أجله؛ ليمكن تسليمه في وقته، فإن كان المسلَم فيه لا يوجد في وقت الحلول لم يصح السلم، كما لو أسلم في رُطَبٍ وعنبٍ إلى الشتاء.

قال الموفق ابن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.

الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد

من شروط صحة السلم: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، وذلك لأنه إذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد صار من قبيل بيع الدين بالدين وهو لا يجوز.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: “لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه، ولا بد من أن يكون رأس مال السلم معلومًا قدره ووصفه”.

الشرط السابع: أن يُسلم في الذمة

من شروط صحة السلم: أن يُسلم في الذمة؛ فيكون المسلَم فيه غير معيَّن، أي أنه موصوفٌ في الذمة، وبناءً على ذلك لا يصح السلم في شجرة معينة، أو في بستان معيَّن؛ وذلك لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه.

قال ابن المنذر: “إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم”.

وأخرج ابن ماجة في سننه عن عبدالله بن سلام : “أن النبي  أسلف إليه رجلٌ من اليهود دنانير في تمرٍ مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال النبي : أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيلٌ مسمى إلى أجل مسمى [4]، وهذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفًا إلا أن المعنى الذي دل عليه هو كالإجماع بين أهل العلم.

ولا يُشترط ذكر مكان الإيفاء إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه كما لو عقد في طائرة أو في سفينة ونحو ذلك، فلا بد من ذكر مكان الوفاء حينئذٍ.

كيفية الاستفادة من السلم في عقود التوريد

ويمكن أن يستفاد من السلم في الوقت الحاضر على نطاق واسع وخاصة في عقود التوريد، فيمكن للمستورد أن يعقد عقد سلم مع شركة أو مع مصنع أو مع مؤسسة، أو مع شخص أو أشخاص في سلعة أو في سلَعٍ موصوفة في الذمة، يلتزم ذلك المتعاقَد معه من شخص أو مؤسسة، يلتزم بتسليمها عند حلول الأجل، ولكن لا بد من العناية بتحقق شروط السلم السابقة، وبخاصة الشرط السادس منها وهو: قبض رأس مال السلم في مجلس العقد؛ إذ أنه كثيرًا ما يقع التساهل فيه من بعض المستوردين.

وحينئذ نقول: لا بد من أن يعجّل المستورد الثمن بكامله عند العقد، أما إن لم يعجِّل المستورد الثمن بكامله عند العقد؛ فإن هذا يكون من قبيل بيع الدين بالدين وهو محرّم، إلا أن يكون محلُّ عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة فيكون العقد حينئذ عقد استصناع وهو جائزٌ على الراجح من قولي الفقهاء، وهذا الذي ذكرته بالنسبة لعقود التوريد هو خلاصة ما قرره مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بشأن عقود التوريد.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2240.
^2, ^3 سبق تخريجه.
^4 رواه ابن ماجه: 2281.
مواد ذات صلة