الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(34) أحكام الحوالة- تتمة التطبيقات المعاصرة للحوالة
|categories

(34) أحكام الحوالة- تتمة التطبيقات المعاصرة للحوالة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من التطبيقات المعاصرة للحوالة، ووعدنا باستكمال الحديث عنها في هذه الحلقة.

وقد سبق أن قلنا: بأن التخريج الفقهي للشيك أنه حوالة، وذكرنا ما يتفرّع على هذا التخريج من مسائل، فنقول:

تتمة التطبيقات المعاصرة للحوالة

هل تحرير شيك إلى مصرف ليس للشخص رصيد فيه يُعتبر حوالة؟

من فروع هذه المسألة كذلك: أن بعض الناس يحرر شيكًا موجهًا إلى مصرفٍ ليس له فيه رصيد، فهل يُعتبر هذا حوالة؟

الجواب: لا يُعتبر حوالة في قول بعض الفقهاء، وهو قولٌ عند المالكية، ووجهٌ عند الشافعية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ويرى أصحاب هذا القول أن إحالة الدائن على من لا دين له عليه لا يسمى حوالة، وإنما يُسمّى وكالة في اقتراض.

ويرى بعض الفقهاء أنّ هذا يسمى حوالة، ويسميها بعضهم بالحوالة على بريء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية والصحيح من مذهب المالكية.

وعلى كلا القولين فلا محظور في تحرير هذا الشيك شرعًا، سواء سُمّي حوالة، أو سُمّي وكالة في اقتراض، ولكن هذا مشروطٌ بعدم تضمّن ذلك الشيك للربا عن طريق ما يسمى بالسحب على المكشوف؛ إذ أن غالب البنوك لا تقبل الشيك الموجَّه إليها من عميل ليس له فيها رصيد إلا باحتساب فوائد ربوية، يطالب بها مع قيمة ذلك الشيك.

فنقول: إذا تضمن ذلك الشيك للربا كان محرمًا، وإن خلا منه فالأصل في ذلك الجواز.

من التطبيقات المعاصرة للحوالة: شيكات التحويلات المصرفية

وهي شيكات تُحرَّر من قِبل المصرف عندما يتقدم إليه أحد يريد نقل نقوده عن طريق ذلك المصرف إلى موطنٍ آخر، يأخذها هو أو وكيله، أو أيُّ شخصٍ آخر يريد أن يوصلها إليه في ذلك الموطن.

والساحب في هذه الشيكات هو المصرف، والمستفيد هو من يراد نقل النقود إليه من قبل ذلك الشخص المتقدم للمصرف، والمسحوب عليه إما فرع المصرف في البلد المراد نقل النقود إليه أو وكيله.

ولا يخلو أن يكون المراد تحويله من جنس النقد المدفوع، أيْ: أن يكون المتقدم لذلك المصرف يريد سحب الشيك بريالات سعودية مثلًا ويدفع للمصرف ريالات سعودية، أو يكون المراد تحويله من جنس آخر كأن يريد المتقدم للمصرف سحب الشيك بدولارات مثلًا، ويدفع للمصرف ريالات سعودية، فما الحكم في كلٍ من هذين القسمين؟

حكم التحويلات المصرفية إذا كانت من جنس المدفوع

نقول: أما القسم الأول وهو أن يكون المراد تحويله من جنس النقد المدفوع، فقبل أن نتكلم عن حكمه نوضّح صورته بالمثال الآتي:

هذا زيدٌ من الناس مقيمٌ في مدينة الرياض، يريد أن يوصل مبلغًا من المال إلى صديقٍ له مقيمٍ في مكة، فذهب إلى مصرفٍ من المصارف، ودفع له عشرة آلاف ريال مثلًا، وطلب منه أن يحرر له بها شيكًا باسم صديقه، ومثل ذلك ما لو طلب من المصرف أن يحول له ذلك المبلغ في حساب صديقه مباشرة، فما حكم هذا العمل؟

نقول: إنّ هذه الشيكات، وما في معناها تعتبر من قبيل السُّفْتَجَة التي ذكرها الفقهاء، وقد سبق أن تكلمنا عنها بالتفصيل عندما تكلمنا عن أحكام القرض، وذكرنا أن معناها: أنها معاملةٌ مالية يقرض فيها إنسانٌ قرضًا لآخر ليوفيه المقترض أو نائبه أو مَدِينُه في بلد آخر.

وفائدتها: السلامة من خطر الطريق، ومؤونة الحمل.

حكم السُّفْتَجَة

وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فالجمهور على عدم جواز السُّفتَجَة لأنها قرضٌ استفاد بها المقرض سقوط خطر الطريق، وهذا نوع نفع.

والصحيح هو القول بالجواز، وهو مرويٌ عن عدد من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع، وهذا القول رواية عند المالكية، ورواية كذلك عند الحنابلة، وقد اختاره موفق الدين ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.

ووجه هذا القول: أن المنفعة التي في السُّفْتَجَة ليست خاصة بالمقرض، بل تشمل المقرض والمقترض؛ فالمقرض ينتفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، والمقترض ينتفع بالقرض، والشارع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرّة فيها.

وبعد أن تقرّر لنا أن القول الصحيح في مسألة السُّفْتَجَة هو القول بجوازها، فينبني عليه القول بجواز التحويلات المصرفية إذا كان المراد تحويله من جنس النقد المدفوع، وحينئذٍ فيُعتبر الشخص الذي تقدَّم للمصرف، ودفع له نقودًا لسحب شيكٍ عليها، يُعتبر هو المقرض، ويُعتبر المصرف هو المقترض، والشيك الذي يستلمه هذا الشخص يمثّل السُّفتَجَة وبواسطته يمكن استلام المبلغ المراد تحويله في البلد الآخر.

حكم التحويلات المصرفية إذا كانت من غير جنس المدفوع

أما إذا كان المراد تحويله من غير جنس النقد المدفوع ففي ذلك تفصيل:

فنقول: إن كان المصرف المحوِّل يملك المبلغ المراد تحويله، سواء في صناديقه المحلية، أو في الصندوق المركزي -في مقره الرئيسي-، أو في صندوق من يحوّل عليه من المصارف الأخرى، بحيث يكون للمصرف المحوِّل حسابٌ بالعملة المحوَّل إليها لدى المصرف المحول عليه؛ فإن القيد في دفاتر المصرف وتسلُّم ذلك الشيك هو في معنى القبض لمحتواه، إذا أُجري الصرف بسعر وقته، وتعيَّن مقدار المبلغ المراد تحويله؛ لأن القبض قد ورد مطلقًا في الشرع، ولا ضابط له في اللغة، فالمرجع في تحديده إلى العُرْف كما قرّر ذلك الفقهاء.

والظاهر أن العُرْف في مثل هذه الحال يقضي بأن تسلُّم الشيك في معنى القبض لمحتواه؛ لأن تحويل المبلغ بالعملة المحلية إلى عملةٍ أخرى يُعتبر في هذه الحال في قوة المصارفة يدًا بيد؛ لأن عملية المصارفة قد تمت، وليس بينهما بعد ذلك شيء.

أما إذا كان المبلغ المراد تحويله ليس موجودًا في صندوق المصرف، ولا في قيوده لدى المصارف الأخرى، وإنما سيعمل المصرف على تأمين النقد المحوَّل له مستقبلًا لمن حوّله عليه، فالذي يظهر -والله أعلم- هو أن تسلُّم الشيك في مثل هذه الحال ليس في معنى القبض لمحتواه؛ وذلك لأن المصرف قد صارف بما لا يملكه وقت المصارفة؛ ولانتفاء حقيقة التقابض الحسي والمعنوي في مجلس عقد المصارفة في هذه الحال، كما لو صارف تاجرٌ كبير ذهبًا بفضة مثلًا، وهو لا يملك الذهب وقت المصارفة، وإنما سيعمل على تأمينه في المستقبل، فإن هذا لا يجوز كذلك في مسألتنا هذه.

قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول مسألة قبض الشيك

وفي ختام هذه الحلقة أذكر قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي حول مسألة قبض الشيك، ونص القرار:

إنّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، المنعقدة في مكة المكرمة قد نظر في موضوع:

  • أولًا: صرف النقود في المصارف هل يُستغنى فيه عن القبض بالشيك الذي يستلمه مريد التحويل؟
  • ثانيًا: هل يُكتفى بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملةٍ بعملةٍ أخرى مودعة في المصرف؟

وبعد البحث والدراسة قرر المجلس بالإجماع ما يأتي:

  • أولًا: يقوم استلام الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف.
  • ثانيًا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملةٍ بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة مودعة فيه.

وقد درس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، درس كذلك مسألة القبض صوره وبخاصة المستجدة منها؛ وذلك في دورة مؤتمره السادس بمدينة جدة، وقد أصدر بشأنه قرارًا، وجاء في القرار: أن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا: تسلُّم الشيك إذا كان له رصيدٌ قابلٌ للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه من قِبل المصرف.

أسأل الله ​​​​​​​ أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل.

وإلى لقاءٍ في حلقة قادمة إن شاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مواد ذات صلة