الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(35) أحكام الصلح- تعريفه وأدلة مشروعيته وأنواعه بين الناس
|categories

(35) أحكام الصلح- تعريفه وأدلة مشروعيته وأنواعه بين الناس

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نتحدث معكم في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج عن أحكام الصلح، نتناول جملة منها في هذه الحلقة، ونستكمل الكلام عن بقيتها في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.

تعريف الصلح وأدلة مشروعيته

فنقول: الصلح معناه في اللغة: قطع المنازعة.

ومعناه في الشرع: معاقدةٌ يُتوصّلُ بها إلى إصلاحٍ بين متخاصمين.

وقد وعد الله تعالى من سعى في الإصلاح بين الناس بأن يؤتيه أجرًا عظيمًا، فقال ​​​​​​​: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين، فقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال ​​​​​​​: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].

وعن أبي هريرة : أن النبي  قال: الصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالًا [1]، أخرجه الترمذي وقال: “حديثٌ حسنٌ صحيحٌ”.

وقد كان النبي  يسعى بنفسه للإصلاح بين الناس، كما في قصة إصلاحه بين بني عمرو بن عوف وغيرهم، فينبغي للمسلم أن يقتدي برسول الله في ذلك، وأن يسعى للإصلاح بين المتخاصمين، ففي ذلك الأجر العظيم من الله ​​،​​​​​ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

حكم الكذب بقصد الإصلاح

ويجوز الكذب لقصد الإصلاح، قال البخاري في صحيحه: بابٌ ليس الكاذب الذي يُصلح بين الناس، ثم ساق بسنده عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله  يقول: ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا [2].

والصلح إنما يكون في حقوق المخلوقين التي لبعضهم على بعض، مما يقبل الإسقاط أو المعاوضة، وأما حقوق الله تعالى كالحدود والزكاة فلا مدخل للصلح فيها؛ لأن الصلح فيها هو في الحقيقة أداؤها كاملة، قال البخاري في صحيحه: بابٌ إذا اصطلحوا على صلح جورٍ، فالصلح مردود، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: “جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صَدَق، اقض بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفًا على هذا -أيْ أجيرًا عنده- فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديتُ ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألتُ أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة، وتغريب عام، فقال النبي : لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فردٌ عليك، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، وأما أنت يا أُنيس -لرجل من الصحابة كان جالسًا عنده- فاغدُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها أُنيس، فاعترفت فرجمها” [3].

ففي هذه القصة أبطل النبي  الصلح عما وجب على الزاني من الحد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “والغرض منه هنا أيْ من هذا الحديث في باب الصلح قوله في الحديث: الوليدة والغنم ردٌ عليك لأنه في معنى الصلح عما وجب على العسيف من الحد؛ ولما كان ذلك لا يجوز في الشرع كان جورًا”.

أنواع الصلح بين الناس

والصلح بين الناس يتناول خمسة أنواع:

  • النوع الأول: الصلح بين المسلمين وأهل الحرب.
  • النوع الثاني: الصلح بين أهل العدل وأهل البغي من المسلمين.
  • النوع الثالث: الصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما.
  • النوع الرابع: الصلح بين المتخاصمين في غير المال.
  • النوع الخامس: الصلح بين المتخاصمين في المال.

وهذا النوع الأخير -أعني الصلح بين المتخاصمين في المال- هو الذي يتكلم عنه الفقهاء في باب الصلح، وهو الذي سنتكلم عنه فيما تبقى من وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عنه في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.

أقسام الصلح في الأموال

فنقول: الصلح في الأموال ينقسم إلى قسمين: صلحٌ على إقرار، وصلحٌ على إنكار.

ويقسّم الفقهاء الصلح على إقرار إلى قسمين أيضًا: صلحٌ على جنس الحق، وصلحٌ على غير جنسه.

أما الصلح على جنس الحق، فكما لو أقرَّ له بدينٍ معلوم، أو بعينٍ مالية في يده، فصالحه على أخذ بعض الدين وإسقاط بقيته، أو على هبة بعض الدين، وأخذ البعض الآخر.

ونوضح هذا بمثال فنقول: هذا رجلٌ يطلب من آخر عشرة آلاف ريال مثلًا، فأقرّ له المدين بذلك، وصالحه على أن يُسْقِط عنه منها ألف ريال، فهذا النوع من الصلح يصح، ولا بأس به، إذا كان ذلك الإسقاط أو الإبراء من غير شرط، أي من غير أن يشترط المدّعى عليه بألا يقرّ له بالدين إلا بإسقاط جزءٍ منه.

ويدل لصحة هذا النوع من الصلح: ما جاء في صحيح البخاري أن النبي كلّم غرماء جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ليضعوا عنه، ويدلُّ لذلك أيضًا ما جاء في الصحيحين عن كعب بن مالك أنه تقاضى دينًا له على رجلٍ في عهد رسول الله  في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله  وهو في بيته، فخرج رسول الله  إليهما فنادى: يا كعب فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر -أيْ النصف-، فقال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله : قم فاقضه [4].

حكم من شرط ألا يقر بالدين إلا بشرط الإسقاط أو الهبة

ولكن ما الحكم فيما إذا شرط من عليه الحق ألا يقر له بالدين إلا بشرط أن يسقط أو يهب عنه جزءًا منه؟ ومثل ذلك أيضًا ما لو أقر له بالحق، ولكن منعه من حقه حتى يضع عنه بعضه، كأن يقول له: أنت تطلبني عشرة آلاف ريال، ولكن لن أسلّمها لك إلا بشرط أن تُسقِط عني منها ألف ريال مثلًا؟

والجواب: أنه لا يصح الصلح في هذه الحال.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن منعه المقر من حقه حتى يضع عنه بعضه فالصلح باطل؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه، قال ابن أبي موسى: “الصلح على الإقرار هضمٌ للحق، فمتى أُلزم المقَرُّ له ترك بعض حقه فتركه من غير طيب نفسه لم يطب الأخذ، وإن تطوّع المقَرُّ له بإسقاط بعض حقه جاز ذلك، غير أن ذلك ليس بصلح..، قال الموفق ابن قدامة: فلم يجعله صلحًا، قال: وسماه القاضي -أيْ أبو يعلى- صلحًا وهو قول الشافعي، والخلاف في التسمية، وأما المعنى فمتفقٌ عليه”.

ويُفهم من الكلام السابق: أن من صولح على ترك بعض حقه، إن كان ذلك برضا منه فلا بأس بذلك؛ لأنه قد رضي بإسقاط بعض حقه، وإن كان بغير رضا منه لعدم وجود البيّنة المثبتة لحقه، فإن ذلك لا يحل للمسقَط عنه؛ ولذلك فلو اصطلحا، ثم ظهرت البيّنة بعد لك، فينقض ذلك الصلح في قول بعض الفقهاء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه إنما صالح مكرهًا في الحقيقة؛ إذ لو علم بالبيّنة لم يسمح بشيءٍ من حقه.

ويُشترط أيضًا لهذا النوع من الصلح: أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرّعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه لم يصح، وبناءً على هذا الشرط فولي اليتيم أو المجنون إذا كان لهما دينٌ على شخص فليس لوليهما أن يصالح المدين على ذلك بإسقاط بعضه عنه؛ لأن هذا الإسقاط يُعتبر تبرعًا.

وولي اليتيم والمجنون لا يملك التبرعّ من مالهما، استثنى الفقهاء من هذا مسألة وهي: أن يكون لهما حقٌ ينكره من عليه الحق، ولا بيّنة لهما لإثباته، فيجوز لوليهما المصالحة عن ذلك الحق بإسقاط بعضه؛ وذلك لأن استيفاء البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه، وما لا يُدرك كله لا يُترك كله.

ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام الصلح في الحلقة القادمة إن شاء الله.

فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 3594، والترمذي: 1352، وابن ماجه: 2353.
^2 رواه البخاري: 2692، ومسلم: 2605.
^3 رواه البخاري: 2695، ومسلم: 1697.
^4 رواه البخاري: 471، ومسلم: 1558.
مواد ذات صلة