الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(39) أحكام الحجر- تعريف الحَجْر وأدلة مشروعيته وأقسامه
|categories

(39) أحكام الحجر- تعريف الحَجْر وأدلة مشروعيته وأقسامه

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سنتناول فيها الكلام عن أحكام الحجر، ونذكر في هذه الحلقة جملة من المسائل المتعلقة بالحجر، ونستكمل الحديث عنها في حلقة؛ وربما في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

تعريف الحَجْر

فنقول: الحجر معنا في لغة العرب: المنع والتضييق، ومنه سُمّي الحرام حِجرًا، كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان:22]؛ أيْ: حرامًا محرّمًا، ومعنى الآية: يوم يرى المجرمون الملائكة يوم الممات ويوم المعاد، فلا بُشرى يومئذٍ للمجرمين، وتقول الملائكة لهم: حرامٌ محرّمٌ عليكم الفلاح اليوم.

ومنه سُمّي العقل حجرًا، كما قال الله ​​​​​​​: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5]؛ أيْ ذي عقل، ومنه سُمّي الحِجر عند البيت الحرام؛ لأنه يمنع الطائفين من أن يطوفوا فيه، وإنما يُطاف من ورائه.

ومعنى الحجر شرعًا: منع الإنسان من التصرُّف في ماله.

أدلة مشروعية الحجر

دليله من القرآن الكريم: قول الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، إلى قوله سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6].

فدلّت هاتان الآيتان على أن الحجر على السفيه واليتيم في ماله لئلا يُفسده ويضيعه أنه أمرٌ مشروع، وأنه لا يُدفع إلى اليتيم ماله إلا بعد تحقق رشده فيه.

وقد روي من طرقٍ متعددة عند الدارقطني والحاكم وغيرهما: “أن النبي  حجر على معاذ بن جبل ، وباع ماله في دينه” [1].

أقسام الحجر

ويقسّم الفقهاء الحجر إلى قسمين:

  • القسم الأول: حجرٌ على الإنسان لأجل حظِّ غيره؛ كالحجر على المفلس لحظ الغرماء، والحجر على المريض مرض الموت في التبرُّع بما زاد على الثلث لحظّ الورثة، ومثل ذلك أيضًا الحجر على الراهن في الرهن لحظّ المرتهن.
  • القسم الثاني: حجرٌ على الإنسان لأجل مصلحته هو لئلا يضيع ماله ويفسده، كالحجر على السفيه والصغير والمجنون.

وبعد أن ذكرنا أقسام الحجر إجمالًا ننتقل للكلام عنها بشيءٍ من التفصيل، ونبدأ الكلام عن القسم الأول، وهو: الحجر على الإنسان لأجل حظّ غيره، وأبرز صوره: الحجر على المفلس لحظ الغرماء.

فمن هو المفلس، وما حقيقة الإفلاس؟

نقول: قد ورد ذكر المفلس في قول النبي  لأصحابه: أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال النبي : إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طرح في النار [2]، رواه مسلم.

فقول الصحابة: “المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع” إخبارٌ عن حقيقة المفلس، وقول النبي : ليس ذلك المفلس، تجوّزٌ لم يُرد به نفي الحقيقة، بل أراد أن فلَس الآخرة أشد وأعظم، وهذا كقوله : ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [3].

والمفلس عند الفقهاء هو: من عليه دينٌ حالٌّ لا يتّسع له ماله الموجود.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “المفلس في عُرْف الفقهاء من دينه أكثر من ماله، وسموه مفلسًا، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مستحقُّ الصرف في جهة دينه، فكأنه معدوم، وقد دلّ عليه تفسير النبي مفلس الآخرة، فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال، لكنها لا تفي بما عليه فقُسِمت بين الغرماء، وبقي لا شيء له”.

فهذا المفلس الذي عليه دينٌ حالٌّ لا يتسع له ماله الموجود يُمنع من التصرُّف في ماله؛ لئلا يضرَّ ذلك بأصحاب الديون.

حكم مطالبة المدين المعسر

وأما المدين المعسر الذي لا يقدر على وفاء شيءٍ من دينه، فإنه لا يطالب بالدين، بل يجب إنظاره؛ لقول الله ​​​​​​​: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، ويحرم حبسه، أو التعرّض له؛ وبذلك -أيها الإخوة- نعرف خطأ أولئك الذين يطالبون الغرماء المعسرين الذين ليس عندهم شيء، وربما بقي أولئك المعسرون في السجن مددًا طويلة، وانقطعوا عن أسرهم وأعمالهم.

وانظر كيف أن الله ​​​​​​​ لمّا أمر بإنظار المعسر في قوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] ندب إلى إسقاط الدين عنه، بل سمّى ذلك صدقة، فقال سبحانه: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].

فضل إنظار المعسر

وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: “سمعتُ رسول الله  يقول: من سرّه أن ينجيه الله من كُرب يوم القيامة، فلينفّس عن معسرٍ، أو يضع عنه[4].

وفي الصحيحين عن حذيفة  قال: قال رسول الله : تلقّت الملائكة روح رجلٍ ممن كان قبلكم، فقالوا: عملت من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تذكّر، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، وأن يتجوّزوا عن الموسر، فقال الله: تجاوزوا عنه [5]، وفي رواية: قال الله تعالى: نحن أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي [6].

وعن أبي هريرة  عن النبي  قال: من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظلّه الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله [7]، رواه الترمذي وقال: “حديثٌ حسن صحيح”.

والأحاديث في فضل إنظار المعسر كثيرة، ولكن قد يدّعي الإعسار من ليس بمعسر حقيقة، خاصة في زماننا هذا الذي قد كثر فيه التحايل، وحينئذٍ لا يثبت الإعسار إلا ببينة تُخبر عن باطن حاله، وتشهد بإعساره.

وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه لا يثبت الإعسار إلا بثلاثة، واحتج بحديث قبيصة بن المخارق  أن النبي  قال: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، وذكر منهم: رجلًا أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة، حتى يصيب قوامًا من عيش [8].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إذا كان هذا في باب أخذ الزكاة وحل المسألة، ففي باب دعوى الإعسار المسقط لأداء الدين أولى، قال: فهذا صريحٌ في أنه لا يُقبل في بيّنة الإعسار أقل من ثلاثة رجال، وهو الصواب الذي يتعين القول به؛ لأن الإعسار من الأمور الخفية التي تقوى فيها التهمة، فروعي فيها الزيادة في البيّنة”.

وأما من له قدرةٌ على وفاء دينه، فإنه لا يجوز الحجر عليه لعدم الحاجة إلى ذلك، ولكن يؤمر بوفاء ديونه إذا طالب الغرماء بذلك؛ لقول النبي : مطل الغني ظلم [9]، أيْ: مطل القادر على وفاء دينه ظلمٌ؛ لأنه منع ما وجب عليه أداؤه من حقوق الناس، فالمماطل بقضاء ما عليه من الحق آثمٌ بمماطلته وظالمٌ بها، ويستحق العقوبة بالحبس والتعزير؛ لقول النبي : ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته [10]، رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وهو حديثٌ حسن.

وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: يحلّ عرضه أيْ شكواه، وعقوبته أيْ: حبسه، فإن أصرّ على المماطلة، فإن الحاكم يتدخل فيبيع من ماله ما يسدد به ديونه؛ دفعًا للضرر عن الدائنين.

تلخّص مما سبق أن المدين على ثلاثة أقسام:

  • الأول: من ماله أكثر من الدين، فهذا لا يُحجر عليه، بل يؤمر بوفاء الدين، فإن امتنع حُبِس وعُزِّر، فإن امتنع بيع من ماله ما يسدد به ديونه.
  • القسم الثاني: من ماله أقل من ديونه، فهذا هو الذي يُحجر عليه التصرُّف في ماله إذا طلب الغرماء ذلك.
  • القسم الثالث: المعسر الذي ليس عنده شيءٌ يسدد ما عليه من الديون، فهذا يجب إنظاره، ولا يجوز حبسه، ولا مطالبته بالدين ما دام معسرًا.

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، وإلى لقاءٍ في حلقة قادمةٍ إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الحاكم في المستدرك: 2348، والطبراني في المعجم الأوسط: 5939، والدارقطني: 4551، والبيهقي في السنن الكبرى: 11260.
^2 رواه مسلم: 2581.
^3 رواه البخاري: 6114، ومسلم: 2609.
^4 رواه مسلم: 1563.
^5 رواه البخاري: 2078، ومسلم: 1562.
^6 رواه مسلم: 1560.
^7 رواه الترمذي: 1306.
^8 رواه أبو داود: 1640.
^9 رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564.
^10 رواه أبو داود: 3628، وابن ماجه: 2427، والنسائي: 4689، وأحمد: 17946.
مواد ذات صلة