الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(77) صفة الصلاة- أحكام قراءة الفاتحة
|categories

(77) صفة الصلاة- أحكام قراءة الفاتحة

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

لا يزال الحديث موصولًا عن صفة الصلاة، وقد وعدنا بأن نتكلم عن جملةٍ من الأحكام المتعلقة بقراءة الفاتحة في الصلاة، فنقول:

أحكام قراءة الفاتحة في الصلاة

إنّ قراءة الفاتحة واجبةٌ على المصلي، إذا كان إمامًا أو منفردًا، وأما المأموم فمحل خلافٍ، سيأتي بيانه إن شاء الله.

وقراءة الفاتحة ركنٌ من أركان الصلاة:

لِمَا جاء في الصحيحين عن عبادة الصَّامت : أن النبي  قال: لا صلاة لمن لَـم يقرأ بفاتحة الكتاب [1]، وفي “صحيح مسلمٍ” عن أبي هريرة  أن النبي قال: من صلى صلاةً لَـم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خِدَاجٌ، خِدَاجٌ، خِدَاج، غير تـمام [2]؛ ومعنى: خِدَاج، أي: ناقصة، وقد فسرها بقوله: غير تـمام.

فضائل سورة الفاتحة

سورة الفاتحة هي أعظم سور القرآن، وهي السبع المثاني، وقد خصها الله تعالى بالذكر في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87].

وفي “صحيح البخاري” عن أبي سعيد بن المعلى : أن رسول الله قال: لأعلمنَّك سورةً هي أعظم سورةٍ في القرآن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أُوتيته [3].

وهذه السورة تسمى: الفاتحة؛ لأنه افتُتح بـها المصف في الكتابة؛ ولأنـها تُفتتح بـها الصلاة في القراءة، وسماها النبي  أم القرآن؛ لأن جميع مقاصد القرآن موجودةٌ فيها، فهي مشتملةٌ على التوحيد بأنواعه الثلاثة، وعلى الرسالة، وعلى اليوم الآخر، وعلى طرق الرسل ومخالفيهم، وجميع ما يتعلق بأصول الشرائع، موجودةٌ في هذه السورة.

قال الحسن البصري رحمه الله: “أُودِع في هذه السورة معاني القرآن”.

ولـمَّا كانت هذه السورة العظيمة أعظم سورةٍ في القرآن، وجامعةً لمعانيه؛ كانت أعظم ما يسترقى بـها من الأمراض والأسقام، وقد رقى بـها أحد الصحابة  لمن لدغته عقرب، فشُفي بإذن الله تعالى.

قال القرطبي رحمه الله: “اختُصَّت الفاتحة بأنـها مبدأ القرآن، وحاويةٌ لجميع علومه، لاحتوائها على الثناء على الله، والإقرار بعبادته، والإخلاص له، وسؤال الهداية منه، والإشارة إلى الاعتراف بالعجز عن القيام بنعمه، وإلى شأن المعاد، إلى غير ذلك مـمَّا يقتضي أنَّـها كلها موضع الرقية”.

وقال ابن القيم رحمه الله: “ما تضمَّنته الفاتحة من إخلاص العبودية، والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤالِه مجامع النعم كلها: وهي الهداية التي تجلب النعم، وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية، وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعض شأنـها: أن يُستشفَى بـها من الأدواء، وأن يُرقَى بـها اللديغ..

قال رحمه الله: ولقد مرَّ بي وقتٌ بـمكة سقِمْتُ فيه، وفقدتُّ الطبيب والدواء، فكنت أتعالج بـها، آخذ شربةً وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدت بذلك البُـرْءَ التَّام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثيرٍ من الأوجاع، فأنتفع بـها غاية الانتفاع”.

السُّنَّة في قراءة الفاتحة

والسنة: أن يقف القارئ عند كل آيةٍ في قراءة الفاتحة وغيرها.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والمستحب أن يأتي بـها مرتَّبةً مُعرَبَةً، يقف فيها عند كل آية، ويُـمكِّن حروف المدِّ واللِّين، ما لَـم يُخرجه ذلك إلى التمطيط؛ لقول الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا  [المزمل:4]”.

وعن أنسٍ قال: “كانت قراءة النبي مدًّا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، يـمد بِسْمِ اللَّهِ، ويـمد الْرَّحمَنِ، ويـمد الْرَّحَيمِ[4]، رواه البخاري.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وقوف القارئ على رؤوس الآيات سنة، وإن كانت الآية الثانية متعلقةً بالأولى تعلق الصفة بالموصوف، أو غير ذلك، والقراءة القليلة بتفكُّر أفضل من الكثيرة بلا تفكُّر، وهذا هو المنصوص عن الصحابة  صريحًا، ونقل عن أحمد ما يدل عليه”.

حكم اللحن في قراءة الفاتحة

ويلزم أن يقرأ الفاتحة كاملةً مرتَّبةً، بآياتها، وكلماتها، وحروفها، وحركاتها، ولو أسقط قراءة آيةٍ منها لَـم تصح، ولو كان نسيانًا، بل لو أسقط حرفًا منها لَـم تصح، وكذا إذا لحن لحنًا يُـحِيل المعنى لَـم تصح.

ومن أمثلة اللحن المحِيل للمعنى: أن يكسر الكاف في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] فيقول: (إِيَّاكِ نَعْبُدُ)، ومن ذلك: أن يفتح ألف الوصل في: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فيقول: (أهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أما إذا كان اللحن لا يُـحيل المعنى، فإنـها تصح وتجزئ القراءة بـها، لكن لا يجوز أن يتعمَّد اللحن.

ومن أمثلة اللحن الذي لا يُحيل المعنى: أن يكسر الدال في: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فيقول: (الْحَمْدِ لِلَّهِ)، أو يضم النون في: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فيقول: (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمِ)؛ فهذا لحنٌ لا يُحيل المعنى، وتجزئ معه قراءة الفاتحة.

وقراءة الفاتحة ركنٌ في حق الإمام والمنفرد كما سبق، وتسقط عن المسبوق، إذا أتى والإمام راكعٌ.

حكم قراءة الفاتحة خلف الإمام

هل يلزم المأموم أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، أو أن ذلك لا يلزمه؟

هذا محل خلافٍ بين العلماء:

  • والمشهور من مذهب الشافعية: أنه يجب على المأموم قراءة الفاتحة مطلقًا، أي: سواءٌ كان في الصلاة السرية أو الجهرية.
  • وجمهور العلماء على أن ذلك لا يجب عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر للعلماء فيه ثلاثة أقوال:

  • قيل: ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع، لا بالفاتحة ولا غيرها، وهذا قول الجمهور من السلف والخف، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو أحد قولي الشافعي.
  • وقيل: بل يجوز الأمران، والقراءة أفضل، ويروى هذا عن الأوزاعي وأهل الشام، والليث بن سعد، وهو اختيار طائفةٍ من أصحاب أحمد وغيرهم.
  • وقيل: بل القراءة واجبةٌ، وهو القول الآخر للشافعي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وقول الجمهور، أي: أنه ليس للمأموم أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع القراءة، قال: هو الصحيح، فإن الله سبحانه قال: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، قال أحمد: “أجمع الناس على أنَّـها نزلت في الصلاة”.

وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى  عن النبي أنه قال: إنـما جُعِل الإمام ليؤتـمَّ به، فإذا كبَّـر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا كبَّـر وركع، فكبروا واركعوا… [5] الحديث، فقد أمر الله ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ.

وجعل النبي ذلك من جملة الائتمام به، فمن لَـم ينصت له لَـم يكن قد ائتمَّ به.

ومعلومٌ أن الإمام يجهر لأجل المأموم؛ ولهذا يُؤمِّن المأموم على دعائه، فإذا لَـم يستمع لقراءته ضاع جهره، ومصلحة متابعة الإمام مقدمةٌ على مصلحة ما يؤمر به المنفرد، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وترٍ من صلاته؛ فعل كما يفعل، فيتشهَّد بعد الوتر، ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدًا، كل ذلك لأجل المتابعة، فكيف لا يستمع لقراءته؟

مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة، فإن المستمع له مثل أجر القارئ..

قال: ومما يُبيِّـن هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له، لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل بالإنصات أجر القارئ لَـم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرَّةٌ شغلته عن الاستماع للمأمور به”.

هذا ما تيسَّر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 756، ومسلم: 394
^2 رواه مسلم: 395
^3 رواه البخاري: 4474
^4 رواه البخاري: 5046
^5 رواه مسلم: 404
مواد ذات صلة