الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(79) صفة الصلاة- تتمة القراءة بعد الفاتحة
|categories

(79) صفة الصلاة- تتمة القراءة بعد الفاتحة

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

لا يزال الحديث موصولًا عن صفة الصلاة، وقد تكلمنا في الحلقة السابقة عن بعض ما يشرع في القراءة بعد الفاتحة؛ ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن مسألة: ما يُشرع في القراءة بعد الفاتحة، فنقول:

ما يُشرع في القراءة بعد الفاتحة

إن المشروع للمصلي أن يتحرَّى صلاة رسول الله ، التي كان يصليها بأصحابه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: صلوا كما رأيتموني أصلي [1].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الأفضل للإمام أن يتحرَّى صلاة رسول الله التي كان يصليها بأصحابه، بل هذا هو المشروع الذي يأمر به الأئمة، كما ثبت عنه الصحيح أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه: إذا حضرت الصلاة فأذِّنَا وأقيما، وليؤمكما أحدكما، وصلوا كما رأيتموني أصلي [2].

وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى مائة آية، وهذا بالتقريب نحو ثلث أو نصف جزء، فكان يقرأ بطوال المفصَّل، يقرأ بـ: ق، والسجدة، وتبارك، ونحو ذلك.

وكان يقرأ في الظهر بأقل من ذلك، بنحو ثلاثين آية، ويقرأ في العصر بأقل من ذلك، ويقرأ في المغرب بأقل من ذلك، مثل قِصَار المفصَّل، وفي العشاء الآخرة بنحو: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، ونحوهما.

وكان أحيانًا يطيل الصلاة، كما قرأ في المغرب بسورة الأعراف والطور والمرسلات، وأحيانًا يخفِّف، إما لكونه في سفرٍ، أو لغير ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأُخفِّف مخافة أن تُفتَـن أمه [3]، حتى روي عنه أنه قرأ في الفجر بسورة التكوير، وسورة الزلزلة.

قال رحمه الله: فينبغي للإمام أن يتحرَّى الاقتداء برسول الله ، وإذا كان المأمومون لَـم يعتادوا لصلاته، وربَّـما نفروا منها، درَّجَهم عليها شيئًا بعد شيء، فلا يبدؤهم بـما يُنفِّرهم عنها، بل يتبع السنة بحسب الإمكان.

وليس للإمام أن يطيل على القدر المشروع إلا أن يختاروا ذلك، كما ثبت في الصحيح أنه قال: من أمَّ الناس فليخفِّف، فإن من ورائه السقيم والكبير وذا الحاجة [4].

وقال ابن القيم رحمه الله: “أما قول النبي : أيكم أمَّ الناس فليخفِّف وقول أنسٍ  : “كان رسول الله أخفَّ الناس صلاةً في تـمامٍ” [5]، فالتخفيف أمرٌ نسبيٌّ، يرجع إلى ما فعله النبي وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه  لَـم يكن يأمرهم بأمرٍ ثم يخالفه، وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به، فإنه كان يـمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعافٍ مضاعفة، فهي خفيفةٌ بالنسبة إلى أطول منها.

وهديُه الذي كان واظب عليه، هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه: ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات” [6]، فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي كان يأمر به”.

هدي النبي في القراءة بعد الفاتحة

وكان هدي النبي أنه كان يقرأ غالبًا من المفصَّل، الذي يبدأ من سورة (ق) إلى سورة الناس، وكان يقرأ في الفجر من طوالِه: من سورة (ق) إلى المرسلات، وفي الظهر والعصر والعشاء من وسط المفصَّل: من سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1]، إلى سورة الليل، وفي المغرب يقرأ من قصار المفصَّل: من سورة الضحى إلى سورة الناس، لكن لـم يكن يلتزم في المغرب بالقراءة دائمًا من قصار المفصَّل؛ ولهذا أنكر زيد بن ثابت على مروان بن الحكم اقتصاره في المغرب على قصار المفصَّل، وقال له: “ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وقد سمعت النبي   يقرأ بطولى الطوليين؟ أي: الأعراف” [7].

هذا هو هدي النبي  في قراءته في الصلاة، وربَّـما قرأ من غير المفصَّل، كما ثبت أنه قرأ بالصافات والمؤمنون والأعراف، لكن الغالب من قراءته الاقتصار على المفصَّل.

ومن هنا: فينبغي للأئمة أن يقتدوا بالنبي  في هذا.

ويلاحظ أن بعض الأئمة -وفَّقهم الله- غالب قراءتـهم من غير المفصَّل، وهذا خلاف هدي النبي ، والمطلوب من المسلم أن يتحرَّى هدي النبي  في قراءته، بل وفي صلاته كلها.

حكم قراءة بعض الآيات بعد الفاتحة

ثم إن من هدي النبي  قراءة السورة كاملةً في الصلاة، ولـم يُحفظ عنه أنه كان يختار آياتٍ من أواخر السور، أو من أوساطها ليقرأ بـها.

قال ابن القيم رحمه الله: “كان من هديه قراءة السورة كاملةً، وربَّـما قرأها في الركعتين، وربَّـما قرأ أول السورة، وأما قراءة أواخر السور وأوساطها، فلم يحفظ عنه”.

ومن هنا فينبغي لإمام المسجد أن يحرص على أن تكون قراءته في الصلاة سورةً كاملةً، والملاحظ على بعض الأئمة -وفَّقهم الله- أن غالب قراءتـهم من أواخر السور، أو من أوساطها، بل تجد بعض الأئمة يقرأ آياتٍ من سورةٍ معيَّنة، وربَّـما لا يبقى على إتـمامه السورة سوى آياتٍ معدودة، ومع ذلك ينتقل في الركعة الثانية إلى قراءة آياتٍ أخرى من وسط، أو آخر سورة أخرى، وهذا وإن كان جائزًا لدخوله في عموم قول الله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، إلا أنه ينبغي للإمام أن يحرص على الاقتداء بالنبي  في قراءته.

الحكمة من تطويل القراءة في الفجر

ثم إن من هديه : أنه كان يطيل الركعة الأولى أكثر من الركعة الثانية في جميع الصلوات، وكان يطيل صلاة الفجر أكثر من سائر الصلوات؛ ولهذا: فالسنة تطويل القراءة في صلاة الفجر؛ ولهذا سمى الله عز وجل صلاة الفجر: قرآن الفجر، يقول سبحانه: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وإنـما سميت صلاة الفجر بـ: قرآن الفجر؛ لأنـها تُطوَّل القراءة فيها.

قال ابن القيم رحمه الله: “قرآن الفجر مشهودٌ، يشهده الله تعالى وملائكته، وقيل: يشهده ملائكة الليل والنهار، والقولان مبنيان على أن النزول الإلهي: هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح، أو إلى طلوع الفجر؟ وقد ورد فيه هذا وهذا، وأيضًا: فإنـها لـمَّا نقص عدد ركعاتـها، جعل تطويلها عِوَضًا عما نقصته من العدد، وأيضًا: فإنـها تكون عقب النوم، والناس مستريحون، وأيضًا: فإنـهم لَـم يأخذوا بعد في استقبال المعاش وأسباب الدنيا، وأيضًا: فإنـها تكون في وقتٍ تواطأ فيه السمع واللسان والقلب لفراغه، وعدم تـمكُّن الاشتغال فيه، فيفهم القرآن ويتدبره، وأيضًا: فإنـها أساس العمل وأوله، فأعطيت فضلًا من الاهتمام بـها وتطويلها..

قال رحمه الله: وهذه أسرارٌ إنـما يعرفها من له التفاتٌ إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها”.

والسنة للمصلي إذا قرأ من أول السورة: أن يبسمل فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى هذا فسوف يُبسمِل مرتين: مرةً للفاتحة، ومرةً للسورة بعدها، أما إذا قرأ من أثناء السورة، فإنه لا يُبسمِل، فإن البسملة لا تقرأ في أواسط السور في الصلاة، ولا خارجها.

أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 631.
^2 سبق تخريجه.
^3 رواه البخاري: 708، ومسلم: 470، بنحوه.
^4 رواه البخاري: 90، ومسلم: 466 بنحو هذا اللفظ.
^5 رواه الترمذي: 237، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
^6 رواه النسائي: 826.
^7 رواه البخاري: 764.
مواد ذات صلة