الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(104) أركان الصلاة- الجلوس بين السجدتين والطمأنينة
|categories

(104) أركان الصلاة- الجلوس بين السجدتين والطمأنينة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من أركان الصلاة، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقيتها، فأقول وبالله التوفيق:

من أركان الصلاة

وصلنا عند الحديث عن أركان الصلاة إلى الركن الثامن وهو الجلوس بين السجدتين.

الجلوس بين السجدتين

ويدل له: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي إذا رفع رأسه من السجدة، لَـم يسجد حتى يستوي جالسًا” [1].

وفي حديث المسيء في صلاته، يقول النبي : ثم ارفع أي: من السجود، حتى تطمئن جالسًا [2].

الطمأنينة في جميع الأركان الفعلية

الركن التاسع من أركان الصلاة: الطمأنينة في جميع الأركان الفعلية.

ويدل لهذا الركن: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : “أن النبي دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، ثم جاء فسلَّم على النبي ، فردَّ النبي  عليه السلام، فقال له: ارجع فصلِّ فإنك لَـم تصلِّ فرجع فصلى، ثم جاء فسلَّم على النبي ، فردَّ عليه السلام، ثم قال: ارجع فصلِّ فإنك لَـم تصلِّ فعل ذلك ثلاث مرات، حتى قال الرجل: والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا فعلِّمني، فقال النبي : إذا قمت إلى الصلاة فاستقبل القبلة فكبِّـر، ثم اقرأ ما تيَسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئنَّ جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها [3].

وقد استدل جمهور الفقهاء بـهذا الحديث على أن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدونه.

وبناءً على ذلك: فمن صلى صلاةً لَـم يطمئنَّ فيها لَـم تصح صلاته، وإن صلى ألف صلاةٍ، وإنك لتعجب مـمَّا يقع من بعض المصلين من السرعة عند أداء الصلاة، ونقرها كنقر الغراب، فهؤلاء ليس لهم من صلاتـهم سوى التعب؛ ولهذا ردَّ النبي هذا الرجل ثلاث مراتٍ، وهو يقول له في كل مرةٍ: ارجع فصلِّ، فإنك لَـم تصلِّ.

وقوله عليه الصلاة والسلام: فإنك لَـم تصلِّ: هذا نفيٌ، والأصل في النفي: أن يكون نفيًا للوجود، فإن لَـم يـمكن فهو نفيٌ للصحة، فإن لَـم يـمكن فهو نفيٌ للكمال.

وإذا نزَّلنا قوله في هذا الحديث: فإنك لَـم تصلِّ على هذه المراتب الثلاث، فإن هذا الرجل قد صلى ثلاث مرات، وأتى بأفعالها، وما فيها من الأقوال، فلا يـمكن إذًا أن يكون المراد نفي الوجود، وحينئذٍ يُحمل النفي في قوله: فإنك لَـم تصلِّ، على نفي الصحة، أي: صلاتك بـهذه الطريقة التي لَـم تطمئنَّ فيها غير صحيحة.

وبعض الناس يحرص على الإتيان بركن الطمأنينة في صلاة الفريضة فقط، وأما في صلاة النافلة، فإنه يُـخلُّ به، فتجدهم في صلاة التراويح مثلًا، يخففونـها تخفيفًا لا يتحقق معه الإتيان بركن الطمأنينة، وهؤلاء وإن كانوا لا يؤاخذون باعتبار أن صلاة النافلة غير واجبة؛ لكنهم لا يثابون عليها كذلك، فليس لهم من صلاتـهم تلك إلا التعب.

ولهذا نقول: إن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، سواءٌ كان ذلك في صلاة الفريضة، أو في صلاة النافلة، بل إن قصة المسيء في صلاته التي قال النبي فيها ثلاث مرات: ارجع فصلِّ، فإنك لَـم تصلِّ، إنـما وردت في صلاة نافلة.

قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله، معلِّقًا على قصة المسيء في صلاته: “قوله: “فدخل رجلٌ فصلى”، زاد النسائي من رواية داود بن قيس: “ركعتين”، وفيه إشعارٌ بأنه صلى نفلًا، والأقرب أنَّـها تحية المسجد”.

حدُّ الطمأنينة في الصلاة

  • قيل: هو السكون وإن قلَّ، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
  • وقيل: إن حدَّها هو قدر الإتيان بالذكر الواجب، وهو قولٌ عند الحنابلة.

وهذا القول هو الأقرب -والله تعالى أعلم- لأن الطمأنينة مأخوذةٌ من: اطمأنَّ، إذا تـمهَّل واستقرَّ، ولا يقال لشخصٍ سكن لحظةً، أقل من أن يأتي فيها بالذكر الواجب، لا يُقال عنه إنه مطمئن، وقد جاء في حديث عبدالرحمن بن شِبْل الأنصار، قال: “نـهى رسول الله عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطِّن الرجل المكان كما يُوطِّن البعير” [4]، أخرجه أبو داود وأحمد، وهو حديثٌ حسنٌ بـمجموع طرقه وشواهده، وقد صححه ابن خزيـمة وابن حبان والحاكم.

ومعنى قوله: “أن يُوطِّن الرجل المكان كما يوطِّن البعير” أي: أن يألفَ مكانًا معلومًا من المسجد لا يصلي إلا فيه، كالبعير لا يأوي من عطنِه إلا مَبْـرَكٍ قد ألفه وأوطنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإنـما جمع النبي بين الأفعال الثلاثة، أي: في هذا الحديث، وإن كان كانت مختلفة الأجناس؛ لأنه يجمعها مشابـهة البهائم، فنهى عن مشابـهة فعل الغراب، وعمَّا يشبه فعل السبع، وعمَّا يشبه فعل البعير، وإن كان نقر الغراب أشدَّ من الأمرين الآخرين.

ولِمَا فيه من أحاديث أُخَر: ففي الصحيحين عن أنسٍ : أن النبي قال: اعتدلوا في الركوع والسجود، ولا يبسُطنَّ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب [5]، لا سيما وقد بيَّـن في حديثٍ آخر أن نقر الصلاة من صفات المنافقين، والله تعالى قد أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين، فروى مسلمٌ في صحيحه عن أنسٍ : أن النبي قال: تلك صلاة المنافق، يُـمهِل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا [6].

فأخبر  أن المنافق يُضيِّع وقت الصلاة المفروضة، ويضيع كذلك فعلها وينقرها، فدل ذلك على ذمِّ هذا وهذا، وذلك حجةٌ واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز، وأنه من فعل من فيه نفاق، والنفاق كله حرام.

وفي (صحيح البخاري) عن حذيفة بن اليمان : أنه رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلـمَّا قضى صلاته دعاه، وقال له: “ما صليتَ، ولو مِتَّ متَّ على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا [7]، وفي لفظٍ آخر عند البخاري قال: “ولو مُتَّ متَّ على غير سنة محمد [8].

أيها الإخوة، إن من الناس من يجعل الصلاة آخر اهتماماته، فإذا قام وصلى نقرها، ولـم يطمئنَّ فيها، وصلى صلاةً لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلًا، وهذا لا تصح صلاته؛ لكونه قد أخلَّ بركن الطمأنينة، وهو على خطرٍ عظيم؛ ولهذا قال حذيفة ، لمن لَـم يطمئنَّ في صلاته: “ما صليتَ ولو متَّ متَّ على غير السنة”.

قال ابن القيم رحمه الله: “من الناس من اعتاد نقر الصلاة كصلاة المنافقين، وليس له في الصلاة ذوقٌ، ولا له فيها راحة، بل يصليها استراحةً منها لا بـها، يقف أحدهم بين يدي المخلوق معظم اليوم، ويسعى في خدمته أعظم السعي، فلا يشكو طول ذلك، ولا يتبَـرَّم به، فإذا وقف بين يدي ربِّه في خدمته جزءً يسيرًا من الزمان، وهو أقل القليل بالنسبة إلى وقوفه في خدمة المخلوق، استثقل ذلك الوقوف، واستطال، وشكا منه، وكأنه واقفٌ على الجمر.

قال: ومن كانت هذه كراهته لخدمته ربَّه، والوقوف بين يديه، فالله تعالى أكره لهذه الخدمة منه، والله المستعان”.

أيها الإخوة، إن الصلاة عبادةٌ يناجي فيها العبد ربَّه، فإذا لَـم يطمئن العبد فيها، وإنـما يأتي بحركاتٍ مـجرَّدةٍ، لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلًا، فما الفائدة من هذه الحركات؟!

إن الصلاة تعطي القلب حياةً ونورًا، كما قال النبي : والصلاة نور [9]، وهذه الحياة والنور، لا يـمكن أن تحصل بصلاةٍ لا طمأنينة فيها.

والحاصل: أن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بـها، ومن صلى صلاةً لَـم يطمئنَّ فيها؛ يقال له ما قاله النبي للمسيء في صلاته: ارجع فصلِّ فإنك لَـم تصلِّ [10].

وما قاله حذيفة  لمن لَـم يطمئنَّ في صلاته: “ما صليتَّ، ولو مِتَّ على هذا مِتَّ على غير الفطرة”.

ونستكمل الحديث عن بقية أركان الصلاة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 498.
^2 رواه البخاري: 757، ومسلم: 397.
^3, ^10 سبق تخريجه.
^4 رواه أبو داود: 862، وابن ماجه: 1429، والنسائي: 1112، وابن حبان: 2277، وأحمد: 15532، وابن خزيمة: 1319، والحاكم: 833.
^5 رواه البخاري: 822، ومسلم: 493.
^6 رواه مسلم: 622.
^7 رواه البخاري: 791.
^8 رواه البخاري: 808.
^9 رواه مسلم: 223.
مواد ذات صلة