الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(132) أحكام صلاة الجماعة- التنفل بعد الفريضة وقراءة المأموم
|categories

(132) أحكام صلاة الجماعة- التنفل بعد الفريضة وقراءة المأموم

مشاهدة من الموقع

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

ونتكلم هنا عن مسألتين:

  • عن حكم التنفُّل بعد إقامة الفريضة.
  • وعن حكم القراءة خلف الإمام.

أولًا: حكم التنفل بعد إقامة الفريضة

إذا أقيمت الصلاة، فليس لأحدٍ أن يشتغل عنها بغيرها.

ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة [1].

وقوله: إذا أقيمت الصلاة أي: شرع في الإقامة، وقد جاء ذلك مُصرَّحًا به في رواية ابن حبان بلفظ: إذا أخذ المؤذن في الإقامة [2] وقوله: فلا صلاة: يحتمل أن يكون المراد: فلا صلاة صحيحة، ويحتمل أن يكون المراد: فلا صلاة كاملة، والأول أقرب.

قال النووي رحمه الله: “والحكمة فيه: أن يتفرَّغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمـحافظة على مُكمِّلات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة، وبناءً على ذلك: فيحرم على الإنسان أن يبتدئ نافلةً بعد إقامة الصلاة؛ لأن الوقت قد تعيَّـن لمتابعة الإمام”.

وقد جاء في (صحيح البخاري) عن ابن بُـحيْنَة: “أن رسول الله رأى رجلًا وقد أقيمت الصلاة، يصلي ركعتين، فلـمَّا انصرف رسول الله لاث به الناس -أي: أحاطوا به- وقال له رسول الله: آصبح أربعًا، آصبح أربعًا؟! [3].

ولكن: هل المراد بقول النبي : لا صلاة في حديث: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة: الابتداء والإتـمام؟ أي: لا صلاة ابتداءً ولا إتـمامًا، أو أن المراد لا صلاة ابتداءً؟

قولان لأهل العلم: والأقرب -والله أعلم- أن المراد: لا صلاة ابتداءً، فالممنوع هو ابتداء نافلةٍ بعد إقامة الصلاة، ولهذا قال بعض الفقهاء: إذا أقيمت الصلاة وهو في نافلةٍ أتـمَّها، إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها.

والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- أنه إذا كان في الركعة الثانية أتـمَّها خفيفة، أما إذا كان في الركعة الأولى فيقطعها.

ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة [4].

وهذا الذي قد صلى ركعةً قبل أن تقام الصلاة، يكون قد أدرك ركعةً من الصلاة، سالمةً من المعارض الذي هو إقامة الصلاة، فيكون قد أدرك الصلاة بإدراكه الركعة قبل النهي، فيتمها خفيفة.

أما إذا كان في الركعة الأولى، فإنه يقطعها؛ لأنه لا يكون مدركًا للصلاة قبل الإقامة، حيث لَـم يدرك ركعةً قبل الإقامة، فيشمله النهي الوارد في حديث: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة.

ثانيًا: قراءة المأموم خلف الإمام

وهي من المسائل التي يتكلم عنها الفقهاء في هذا الباب، وقد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال:

  • الأول: أنه يجب على المأموم قراءة الفاتحة مطلقًا في السرِّية والجهرية، وهذا هو مذهب الشافعية.
  • الثاني: أنه لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة السرِّية ولا الجهرية، ويتحملها عنه الإمام، لكن يستحب للمأموم أن يقرأ في الصلاة السرية، وفي سكوته في الصلاة الجهرية، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة، والحنفية كذلك إلا أنَّـهم قالوا: لا يقرأ المأموم الفاتحة مطلقًا.
  • الثالث: تجب القراءة مطلقًا فيما يسر به الإمام دون ما يجهر به، فإذا سمع قراءة الإمام أنصت ولـم يقرأ، وقد عزاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأكثر السلف، ونصر هذا القول، وقال: “إنه لا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة، وأنه يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي، والقول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق”.

واستدلَّ من يرى وجوب قراءة المأموم للفاتحة مطلقًا في الصلاة السرية والجهرية، بحديث عبادة بن الصامت قال: “كنا خلف النبي في صلاة الفجر، فقرأ فثقلت عليه القراءة، فلـمَّا فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لَـم يقرأ بـها [5] أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، قال الخطابي: “وإسناده جيدٌ لا مطعن فيه”.

واستدلَّ القائلون بعدم وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام بحديث جابرٍ : أن النبي قال: من كان له إمامٌ، فقراءة الإمام له قراءة [6]، وسيأتي الكلام عن تخريجه.

وأما القول الثالث: وهو وجوب قراءة الفاتحة على المأموم فيما يسر به الإمام دون ما يجهر به، فلا تجب، هذا القول هو أرجح الأقوال، وقد نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وننقل أدلة هذا القول من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، قال: “إذا جهر الإمام استمع المأموم لقراءته، فإن كان لا يسمع لبعده، فإنه يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، ثم ذكر الأدلة لذلك:

ومـمَّا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الأدلة: قول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، قال: وقد استفاض عن السلف أنـها نزلت في القراءة في الصلاة، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنـها نزلت في ذلك، وأنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر، فالآية دالةٌ على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام، وسواءٌ كان أمر إيجابٍ أو استحبابٍ؛ فالمقصود حاصلٌ، فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة، وهذا صريحٌ في دلالة الآية على كل تقدير، والـمُنازِع يُسلِّم أن الاستماع مأمورٌ دون القراءة فيما زاد على الفاتحة.

والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن، والفاتحة أم القرآن، وهي التي لا بد من قراءتـها في كل صلاة، والفاتحة أفضل سور القرآن، وهي التي لـم يُنزَل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها، فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونـها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتـها أكثر وأشهر، وهي أفضل من غيرها.

قال رحمه الله: فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مـمَّا يحصل بالقراءة، وثبت أنه في هذه الحال، قراءة الإمام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي أنه قال: من كان له إمامٌ، فقراءة الإمام له قراءة [7].

وهذا الحديث روي مرسلًا ومسندًا، لكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلًا عن عبدالله بن شداد، عن النبي ، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسندًا، وهذا المرسل قد عضَّدَه ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يُحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد نصَّ الشافعي على جواز الاحتجاج بـمثل هذا المرسل.

فتبيَّـن أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمرٌ دلَّ عليه القرآن دلالة قاطعة؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة، فكان بيانـها في القرآن مـمَّا يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقرآن، ففي (صحيح مسلم) عن أبي موسى الأشعري قال: “إن رسول الله خطبنا، فبيَّـن لنا سنتنا، وعلَّمنا صلاتنا، فقال: أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمُّكُم أحدكم، فإذا كبَّـر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا [8].

والإنصات إلى قراءة القارئ من تـمام الائتمام به، فإن من قرأ إلى قومٍ لا يستمعون لقراءته؛ لـم يكونوا مؤتـمِّين به، وهذا مـمَّا يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم، فإن متابعته لإمامه مقدمةٌ على غيرها، حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجدًا سجد معه، وإذا أدركه في وترٍ من صلاته، تشهَّد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردًا لـم يجز، وإنـما فعله لأجل الائتمام، فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، ويسقط به ما يجب على المنفرد.

وروى الزهري عن أبي هريرة : “أن رسول الله انصرف من صلاةٍ جهر فيها، فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ قال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول: ما لي أُنَازَع القرآن!، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه بالقراءة في الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله [9]، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: “حديث حسن”.

ثم ذكر رحمه الله أدلةً أخرى لهذا القول.

أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، نلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 710.
^2 رواه ابن حبان: 2190.
^3 رواه البخاري: 663 واللفظ له، ومسلم: 711.
^4 رواه البخاري: 580، ومسلم: 607.
^5 رواه أبو داود: 823، والترمذي: 311، وأحمد: 22694، وقال الترمذي: حديث عبادة حديث حسن.
^6 رواه ابن ماجه: 850.
^7 سبق تخريجه.
^8 رواه مسلم: 404.
^9 رواه أبو داود: 826، والترمذي: 312، وابن ماجه: 848، والنسائي: 919، وأحمد: 8007.
مواد ذات صلة