الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(163) أحكام الجنائز- حكم تغسيل الميت وتكفينه وصفة الغسل
|categories

(163) أحكام الجنائز- حكم تغسيل الميت وتكفينه وصفة الغسل

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام الجنائز، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن أحكام تغسيل الميت؛ فأقول وبالله التوفيق:

الحكمة من دفن الميت

إن الله تعالى كرّم بني آدم وفضّلهم على كثيرٍ ممن خلق؛ كما قال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].

ومما امتن الله تعالى به على الإنسان أن أكرمه بدفنه بعد موته؛ كما قال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ۝أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، وكما في قوله سبحانه: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أيْ جعله ذا قبر.

وقد ذكر الله تعالى هذا على سبيل المِنَّة، فالله تعالى هو الذي ألهم الناس دفن الميّت كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه؛ كما قال سبحانه: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:30-31] ومنذ ذلك الحين -أيْ من زمن آدم- إلى وقتنا هذا والناس تدفن موتاها.

وإنما امتن الله تعالى بهذا على عباده؛ لأن دفن الميت إكرامٌ له وصيانةٌ وسترٌ، فإن الإنسان إذا مات أصبح جثّة هامدة ولو بقي في مكانه يومًا واحدًا ولربما نقول ساعات في الزمن الحار لانبعثت منه الروائح الكريهة، ومن رحمة الله تعالى أن أكرم هذا الإنسان بدفنه ولم يجعله كسائر الجيف تُلقى في المزابل وغيرها، أو ربما تلتقمها السباع والطير.

وقد انتكست بعض طوائف بني آدم عن هذه الفطرة فهم يحرقون موتاهم بالنار، ولا شك أن هذا فيه إهانة لهذا الميّت وانتكاسٌ عن الفطرة السوية التي كان الناس عليها من زمن آدم عليه السلام.

حكم تغسيل الميت وتكفينه

وفي دين الإسلام يجب قبل دفن الميّت تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، وهذه كلها من فروض الكفاية.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم فيه خلافًا”.

وقد رغّب الشارع في القيام بحقوق الميت: من تغسيله، وتشييعه، والصلاة عليه، ودفنه؛ ورتّب على ذلك الثواب والأجر الجزيل، فعن أبي رافع أنَّ النبي قال: من غسّل ميتًا فكتم عليه غُفِر له أربعين مرّة [1]، أخرجه الحاكم، والطبراني، والبيهقي، وقال الحافظ ابن حجر: “إسناده قوي”.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين [2]، أيْ من شهد الجنازة حتى يصلى عليها ثم تُدفن فإنه يرجع من الأجر والثواب بحسنات مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية: فله قيراطان أصغرهما مثل جبل أحد [3]، وجاء في رواية البخاري: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما بلغه هذا الحديث قال: “لقد فرّطنا إذن في قراريط كثيرة” [4].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وفي هذا الحديث الترغيب في شهود الميّت والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له، والتنبيه على عظيم فضل الله تعالى وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته”.

أولى الناس بتغسيل الميت

أولى الناس بتغسيل الميّت وصيّه في ذلك، ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، وهذا إنما هو عند المشاحّة في تغسيله، أما إذا لم يكن هناك مشاحّة كما عليه الحال في وقتنا الحاضر فيغسّل الميّت من يُحسن التغسيل من المسلمين.

ويجوز لكلٍ من الزوجين تغسيل الآخر، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والقول بجواز غسل المرأة زوجها هو قول عامة أهل العلم، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا”.

قالت عائشة رضي الله عنها: “لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسّل رسول الله إلا نساؤه”، رواه أبو داود.

وأوصى أبو بكر أن تغسِّله امرأته أسماء بنت عميس ففعلت، وغسّل أبا موسى الأشعري امرأته، قال الإمام أحمد: “ليس فيه اختلافٌ بين الناس”.

وأما تغسيل الرجل امرأته فيجوز كذلك في قول جمهور أهل العلم، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “رجع رسول الله من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأقول: وا رأساه! فقال رسول الله : بل أنا وا رأساه! ما ضرّك لو مُتِّ قبلي فغسّلتكِ وكفّنتكِ ثم صليتُ عليكِ ودفنتكِ [5]، أخرجه أحمد وابن ماجه بسندٍ صحيح.

وقوله: فغسّلتكِ دليلٌ على جواز تغسيل الرجل لزوجته الميّتة.

وقد أخرج البيهقي في سننه عن أسماء بنت عميس: أن عليًّا  غسّل فاطمة بنت رسول الله ، قال الحافظ ابن حجر: “إسناده حسن”.

وقال الموفق ابن قدامة: “واشتُهِر ذلك -أي تغسيل عليٍ لفاطمة- فلم يُنكر فكان إجماعًا”.

ويجوز لكلٍ من الرجل والمرأة تغسيل من له دون سبع سنين وقد حُكي إجماعًا، ويحرم أن يغسّل مسلمٌ كافرًا أو أن يدفنه أو يصلي عليه، بل يوارى بالتراب إذا لم يوجد من يقوم به من أقاربه، ويدل لذلك أن الله تعالى قال لنبيه محمد : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فإذا نُهي عن الصلاة على الكافر وهي أعظم ما يُفعل بالميّت وأنفع ما يكون له، فما دونها من باب أولى.

ولأن الكافر نجسٌ وتطهيره لا يرفع نجاسته؛ لقول الله ​​​​​​​: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

صفة غسل الميت

صفة تغسيل الميّت: أن يستر عورة الميّت أولًا بأن يلف عليها لفافة ونحوها، ثم يجرّده من ثيابه، ويغسّله في مكانٍ لا يراه الناس، ويُكره أن يحضر تغسيل الميّت سوى المغسِّل ومن يعينه فقط، ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويعصر بطنه برفق ليخرج ما هو مستعدٌ للخروج؛ فإن الإنسان بعد موته ترتخي أعصابه وربما يكون في بطنه شيءٌ من القذر فيخرج بعصره، ثم يلفُّ على يده خرقة وفي الوقت الحاضر يُكتفى بالقفازين يلبسهما المغسِّل وينجّيه.

ولا يحل للمغسِّل ولا لغيره أن يمس عورة الميّت إذا كان عمره أكثر من سبع سنين.

ويستحب ألا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، ثم ينوي التغسيل ويسمِّي، ويُستحب أن يوضئه، ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه، بل يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه ومنخريه، ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة سدرٍ، وفي الوقت الحاضر يمكن أن يُستغنى عن السدر بالمنظّفات الحديثة من الصابون أو الشامبو ونحوها.

ثم يغسل شقّه الأيمن، ثم الأيسر، ثم بقية بدنه، والواجب غسلةٌ واحدة إن حصل الإنقاء، والمستحب ثلاث غسلات، فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى.

ويُستحب أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافورًا؛ لأن الكافور يصلّب بدن الميّت ويطيّبه ويبرّده، ومن خصائصه أيضًا أنه يطرد الهوام عن الميت، ويدل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها قالت: “دخل علينا النبي  ونحن نغسِّل ابنته فقال: اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّ ذلك، بماءٍ وسدرٍ واجعلن في الأخيرة كافورًا، قالت: فلما فرغنا آذنّاه -أيْ أعلمناه- فألقى إلينا حقوه -أيْ إزاره- فقال: أشعرنها إيّاه” [6].

وإذا تعذّر تغسيل الميت إما لعدم الماء أو خيف تقطّعه بالغسل كالمحترق مثلًا، أو كان الميّت امرأة مع رجالٍ ليس فيهم زوجها، أو رجلًا مع نساءٍ ليس فيهم زوجته؛ فإن الميّت في هذه الأحوال يُيمّم بالتراب.

وإذا كان الميت محرمًا فإنه يغسّل، ولكن يجنّب ما يُجَنَّبه المحرم من الطيب وتغطية الرأس؛ لقول النبي في الذي وقصته دابته وهو محرم: اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفّنوه في ثوبيه، ولا تمسّوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة ملبيًا [7]، متفقٌ عليه.

حكم تغسيل الشهيد والسقط

والشهيد في المعركة لا يغسّل في قول عامة أهل العلم؛ لما جاء في الصحيحين عن جابر : “أنَّ النبي أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسّلهم، ولم يصلِّ عليهم” [8].

والسقط إذا ولِد لأكثر من أربعة أشهر فإنه يغسَّل ويكفَّن ويصلى عليه، أما إذا ولِد لدون أربعة أشهر فلا يغسَّل ولا يصلى عليه؛ لأنه لم تُنفخ فيه الروح بعد ولم يصبح إنسانًا، وإنما لا زال نطفة أو علقة أو مضغة، والروح إنما تُنفخ في الجنين إذا بلغ أربعة أشهرٍ؛ كما جاء في حديث ابن مسعود أنَّ النبي قال: إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأتيه الملك فيؤمر بنفخ الروح فيه ويؤمر معه بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أم سعيد [9].

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من السعداء الفائزين بجنته ورضوانه.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه الحاكم في المستدرك: 1307، والطبراني في الكبير: 929، والبيهقي في شعب الإيمان: 8827.
^2 رواه البخاري: 1325، ومسلم: 945.
^3 رواه مسلم: 945.
^4 رواه البخاري: 1324، ومسلم: 945.
^5 رواه ابن ماجه: 1465، وأحمد: 25908.
^6 رواه البخاري: 1253، ومسلم: 939.
^7 رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206.
^8 رواه البخاري: 1343.
^9 رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643.
مواد ذات صلة