عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سأبتدئ الحديث فيها عن الأحكام والمسائل المتعلقة بالصيام، وابتدئ بالتعريف:
تعريف الصيام
فالصيام لغةً: يطلق على مجرد الإمساك، يقال للساكت: صائمٌ؛ لإمساكه عن الكلام، ومنه قول الله تعالى عن مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، أي: إمساكًا عن الكلام.
ويقال: صام النهارُ: إذا وقف سير الشمس، وصام الفرس، إذا أمسك عن الصهيل، ومنه قول الشاعر:
| خيلٌ صيامٌ وأخرى غير صائمةٍ | تحت العَجَاج وأخرى تَعلُك اللُّجُما |
ومعناه في الشرع: التعبد لله تعالى بالإمساك بنيةٍ عن أشياء مخصوصةٍ، في زمنٍ معينٍ، من شخصٍ معينٍ.
وقولنا في التعريف: “التعبد لله تعالى”، لا بد من نية التعبد لله بهذا الإمساك؛ حتى يكون صومًا شرعًا، وإلا فإنه ليس بصومٍ من الناحية الشرعية، وإن كان قد يطلق عليه صومٌ من الناحية اللغوية.
“عن أشياء مخصوصةٍ”: هي مفسدات الصيام، وسيأتي الحديث عنها مفصلًا في حلقة قادمة إن شاء الله.
“في زمنٍ معينٍ”: هو من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ كما قال : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187].
“من شخصٍ مخصوصٍ”: هو المسلم البالغ العاقل القادر المقيم، غير الحائض والنفساء.
مراحل فَرْضية الصيام
وقد فُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وصام رسول الله تسع رمضاناتٍ، وكانت فَرْضية صيام شهر رمضان على ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: فرضية صيام عاشوراء.
- والمرحلة الثانية: نسخ وجوب صيام يوم عاشوراء بفرض صيام شهر رمضان، لكن على التخيير بين الصيام والإطعام؛ كما قال : وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184]، فخير الله الناس في تلك المرحلة بين الصيام وبين الإطعام، مع تفضيل الصيام على الإطعام: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
- ثم بعد ذلك أتت المرحلة الثالثة، وهي التي استقر عليها التشريع: وهي فرض صيام رمضان على التعيين؛ لقول الله : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
الحكمة من التدرج في فَرْضية الصيام
والحكمة من هذا التدرج: هو أن قاعدة الشريعة: أن ما كان ثقيلًا على النفوس فإن الشريعة تسلك معه مسلك التدرج، فلما كان الصيام لم يألفه الناس في ذلك الزمن، أتت فَرْضيَّته بهذا التدرج.
وهذا له نظائر؛ منها مثلًا: تحريم شرب الخمر، فإن تحريمه إنما أتى على التدرج كما هو معلومٌ، وهذا من حكمة الله ؛ إذ إن النفس البشرية لا تقبل الشيء الثقيل الذي تؤمر به أو تمنع منه من غير تدرجٍ؛ فكانت الحكمة تقتضي أن يُسلك معها مسلك التدرج، ولا غَرْوَ في ذلك، فهذه الشريعة من لدن حكيمٍ عليمٍ.
وقد كره بعض العلماء أن يقال: “رمضان”، واستحبوا أن يقال: “شهر رمضان”، قالوا: لأن الله قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، واستدلوا بحديث أبي هريرة ، أن النبي قال: لا تقولوا رمضان؛ فإن رمضان من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان [1]، ولكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، أخرجه البيهقي وابن عديٍّ، وقد ضعفه ابن عديٍّ، وضعفه شديدٌ، فهذا الحديث حديثٌ لا يصح ولا يثبت عن رسول الله .
ولهذا فالصواب في هذه المسألة: أنه لا يكره أن يقال: رمضان، بل لا بأس به، وقد جاء في السُّنة ما يدل لهذا؛ كما في قول النبي في حديث أبي هريرة : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة [2]، وهذا الحديث متفقٌ على صحته، وكما في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن النبي قال: عمرة في رمضان تعدل حجةً، أو قال: حجةً معي [3]، متفقٌ عليه.
وهنا جاء التعبير بـ”رمضان” من غير أن يسبقه كلمة “شهرٍ” في هذه الأحاديث، وفي هذا دلالةٌ ظاهرةٌ على أنه لا بأس أن يقال: “رمضان”، من غير أن يُسبق بكلمة “شهرٍ”، فلا بأس أن يقال: “شهر رمضان”، أو يقال: “رمضان”، وليس هناك دليلٌ يدل على كراهة الاقتصار على قول: “رمضان”، والحديث المروي في ذلك حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي .
بم يثبت دخول شهر رمضان؟
أيها الإخوة المستمعون، والمعتبر في إثبات الأهِلَّة: هو الرؤية، في قول أكثر العلماء؛ لأن النصوص إنما وردت بتقييد الصوم والفطر بالرؤية؛ كما في قول النبي : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين [4].
هل يعتمد على الحسابات الفلكية
وذهب طائفةٌ من أهل العلم إلى أن الحسابات الفلكية يُعتمد عليها في النفي دون الإثبات، ومعنى قولهم: “في النفي”، أي: أن أهل الاختصاص من أهل الفلك إذا نفوا إمكانية رؤية الهلال فإن قولهم هذا معتبرٌ.
وأما إذا قالوا: يمكن رؤية الهلال ولم يُرَ، فإن هذه الإمكانية غير معتبرةٍ، وحينئذٍ يُكمَل الشهر ثلاثين يومًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إذا كان بُعْد الهلال مثلًا عشرين درجةً فهذا يُرى، ما لم يَحُلْ حائلٌ، وإذا كان على درجةٍ واحدةٍ فهذا لا يرى، وأما ما حول العشرة -يعني العشر الدرجات- فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية، ثم ذكر عدة أسبابٍ لاختلاف الرؤية”.
ثم قال رحمه الله: “والناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأً أجزأهم الوقوف باتفاق العلماء، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأً ففي الإجزاء نزاعٌ، والأظهر صحة الوقوف أيضًا”.
الأصل في إثبات دخول الشهر
قال: “وأصل ذلك: أن الله علق الحكم بالهلال والشهر، فقال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، والهلال: اسمٌ لما يُستهل به، أي: يعلن به ويجهر به، فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهل لم يكن هلالًا، وكذا الشهر مأخوذٌ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وإنما يغلط كثيرٌ من الناس في مثل هذه المسألة؛ لظنهم أنه إذا طلع في السماء كان تلك الليلة أول الشهر، سواءٌ ظهر ذلك للناس واستهلوا به أو لا، وليس كذلك، بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه”.
ولهذا قال النبي : صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون [5]، أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكمٌ.
وبهذا يتبين -أيها الإخوة- أن هذه المسألة فيها سعةٌ، وأنها مبنيةٌ على اليسر والسهولة، فمتى ما أُعلِن عن دخول الشهر كان هلالًا شرعًا وإن كان هناك خطأ في واقع الأمر، ومتى ما أعلن عن إتمام الشهر وعدم دخوله لم يكن الشهر قد دخل شرعًا وإن كان قد استهل في واقع الأمر، فالأمر إذن منوط بالإعلان بالاستهلال وبالاشتهار، فالأمر فيه سعةٌ في شريعة الإسلام، والحمد لله.
ولهذا فلا داعي لتشكيك الناس عند دخول الشهر أو عند خروجه بأنه يحتمل أن هناك خطأً في إثبات دخول الشهر.
حكم الاجتماع في الصوم والفطر
وأيضًا ننبه هنا إلى أن الاجتماع في الصوم وفي الفطر أمرٌ مقصودٌ شرعًا؛ للحديث السابق: الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يُضَحِّي الناس [6].
ومن هنا فينبغي للمسلم: أن يجتمع مع عموم الناس في بلده وألا يشذ عنهم، فإنه يلاحظ على بعض المسلمين في بعض البلدان أنهم يشذون بآرائهم، ويتبعون دولًا أخرى في إثبات دخول الشهر أو خروجه، وهذا خطأٌ، بل المطلوب هو الاجتماع مع أهل البلد في الصوم أو في الفطر؛ لأن ذلك الاجتماع أمرٌ مقصودٌ شرعًا.
أيها الإخوة المستمعون، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.