الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(180) أحكام الزكاة- الحكمة من مشروعية الزكاة وهدي النبي فيها
|categories

(180) أحكام الزكاة- الحكمة من مشروعية الزكاة وهدي النبي فيها

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

ابتدأنا في الحلقة السابقة الحديث عن الزكاة، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن الحكمة من مشروعية الزكاة، فأقول وبالله التوفيق:

الحكمة من مشروعية الزكاة

الزكاة في الإسلام ليست مجرد خُلّة حسنة من خلال الخير، وعملٍ طيبٍ من أعمال البر فحسب، بل إنها فريضة من فرائض الدين، وركنٌ من أركان الإسلام.

لقد جاء في الديانات السابقة مواعظ ووصايا ترغّب في البر والإحسان، وتحذِّر من البُخل والإمساك، وأما في الإسلام فإن الزكاة فريضةٌ يوصم بالفسق من منعها وبالكفر من أنكر وجوبها، فليست إحسانًا اختياريًّا، ولا صدقة تطوعيّة؛ إنها في نظر الإسلام حقٌ للفقراء والمساكين والغارمين، وسائر الأصناف الثمانية، حقٌ قرره مالك هذا المال الحقيقي وهو الله ​​​​​​​، ولله ملك السماوات والأرض، وفرضٌ فرضه الله تعالى على الغني للفقير، فليس للغني منّةٌ على الفقير في بذلها له.

وقد رتّب الشارع أمر هذه الزكاة ونظّمها بما لا يوجد له نظيرٌ في أي دينٍ من الأديان أو ملة من الملل، فحدد أنصبائها ومقاديرها، وحدودها وشروطها، ووقت أدائها، وكيفية أدائها ومصارفها.

هدي النبي  في الزكاة

قال ابن القيم رحمه الله: “هدي النبي في الزكاة أكمل هدي في وقتها وقدرها ونصابها، ومن تجب عليه، ومصرفها، وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال ومصلحة المساكين، وجعلها الله طهرة للمال ولصاحبه، وقيّد النعمة بها على الأغنياء فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته، بل يحفظه عليه وينميه له ويدفع عنه بها الآفات، ويجعلها سورًا عليه، وحصنًَا له، وحارسًا له.

ثم إنه جعلها في أربعة أصناف من المال، وهي أكثر الأموال دورانًا بين الخلْق، وحاجتهم إليها ضرورية،

  • أحدها: الزرع والثمار.
  • الثاني: بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
  • الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم، وهما: الذهب، والفضة.
  • الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.

ثم إنه أوجبها مرة كل عام، وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها، وهذا أعدل ما يكون؛ إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة، يعني كل أسبوع، يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين؛ فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة.

ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها وسهولة ذلك ومشقته، فأوجب الخُمُسَ فيما صادفه الإنسان مجموعًا محصَّلًا من الأموال وهو الركاز، ولم يعتبر له حولًا، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به، وأوجب نصفه وهو العُشُر فيما كانت مشقة تحصيله وتعبه، وكُلْفته فوق ذلك، وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها، ويتولى الله سقيها من عنده بلا كُلْفة من العبد ولا شراء ماء ولا إثارة بئر.

وأوجب نصف العشر فيهما تولى العبد سقيه بالكُلْفة والدوالي والنواضح، وغيرها، -وأقول: ومثل ذلك في الوقت الحاضر بالمكائن الرافعة للماء-.

وأوجب نصف ذلك، -يعني نصف العشر- وهو ربع العشر فيما كان النماء موقوفًا فيه على عملٍ متصل من ربِّ المال، بالضرب في الأرض تارة وبالإدارة تارة وبالتربُّص تارة، ولا ريب أن كُلْفة هذا أعظم من كُلْفة الزرع والثمار.

ثم إنه لما كان لا يحتمل المواساة كل مالٍ وإن قلّ جَعَل للمال الذي تحتمله المواساة نُصُبًا مقدّرة المواساة فيها، لا تُجْحِف بأرباب الأموال وتقع موقعها من المساكين، فجَعَلَ للورِق، أيْ الفضة، مائتي درهم، وللذهب عشرين مثقالًا، وللحبوب والثمار خمسة أوسق.

واقتضت حكمة الشارع أن جعل في الأموال قدرًا يحتمل المواساة ولا يجحف بها، ويكفي المساكين ولا يحتاجون معه إلى شيء، ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، قال ابن القيم: فوقع الظلم من الطائفتين، يعني الأغنياء والآخذين للزكاة؛ فالغني يمنع ما وجب عليه، والآخذ يأخذ ما لا يستحقه، فتولّد من بين الطائفتين ضررٌ عظيمٌ على المساكين، وفاقة شديدة أوجبت لهم أنواع الحيَلِ والإلحاف في المسألة، والرب سبحانه تولى قسم الصدقة بنفسه وجزأها ثمانية أجزاء يجمعها صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجة فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل.

والثاني: من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله؛ فإن لم يكن الآخذ محتاجًا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة”.

فوائد وحِكم الزكاة

وفي الزكاة فوائد فردية واجتماعية، وحكم كثيرة، ونذكر منها:

  • إتمام إسلام العبد وإكماله؛ لأنها أحد أركان الإسلام، فإذا قام بها الإنسان تم إسلامه وكمُل، ولا شك أن هذا غايةٌ عظيمة لكل مسلم.
  • ثم إنها دليلٌ على صدق إيمان المزكّي، وذلك أن المال محبوبٌ للنفوس والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوبٍ مثله أو أكثر، ولهذا سُمّيت صدقة؛ لأنها تدل على صدْق طلب صاحبها لرضا الله ​​​​​​​.
  • ومنها: أنها تزكي أخلاق المزكي فتنتشله من زمرة البخلاء وتدخله في زمرة الكرماء؛ لأنه إذا عوّد نفسه على البذل صار البذل سجية له وطبيعة.
  • ومنها: أنها تشرح الصدر، فالإنسان إذا بذل الشيء ولا سيما المال يجد في نفسه انشراحًا، وهذا شيءٌ مجرَّب، ولكن بشرط أن يكون بذله بسخاءٍ وطيب نفس.
    قال ابن القيم رحمه الله: “من أسباب انشراح الصدر: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسانٌ أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًا وغمًا”.
  • ومنها: أنها تجعل المجتمع الإسلامي كأنه أسرة واحدة يعطف فيه القادر على العاجز، والغني على المعسر، فيُصبح الإنسان يشعر بأن له إخوانًا يجب عليه أن يحسن إليهم كما أحسن الله إليه، فتُصبح الأمة الإسلامية كأنها أسرة واحدة، وهذا ما يُعرف عند المتأخرين بالتكافل الاجتماعي، والزكاة هي خير ما يكون لذلك لأن الإنسان يؤدي بها فريضة وينفع إخوانه.
  • ومنها: أنها تطفئ حرارة ثورة الفقراء؛ لأن الفقير ربما يغيظه أنه يجد هذا الرجل الغني يركب ما شاء من المراكب، ويسكن ما يشاء من القصور، ويأكل ما يشتهي من الطعام؛ وهو لا يجد ذلك، فإذا جاد الأغنياء على الفقراء بالزكاة كسروا ثورتهم وهدؤوا من غضبهم.
  • ومنها: أنها تمنع الجرائم المالية مثل السرقات والنهب والسطو وما أشبه ذلك؛ لأن الفقراء يأتيهم ما يسد شيئًا من حاجتهم ويعذرون الأغنياء بكونهم يعطونهم من مالهم، فيرون أنهم محسنون إليهم فلا يعتدون عليهم.
  • ومنها: أنها تزكي المال وتنميه حِسًا ومعنى، وتقيه من الآفات، وربما يفتح الله لهذا المزكي زيادة رزقٍ بسبب هذه الصدقة؛ كما جاء في الحديث الصحيح ما نقصت صدقةٌ من مال [1]، وهذا الإنسان البخيل الذي يبخل بالزكاة ربما يكون ذلك سببًا؛ لأن يسلِّط الله على ماله ما يقضي عليه أو على أكثره، إما باحتراقٍ أو بخسائر أو بأمراض تلجئه إلى العلاجات، تستنزف منه أموالًا كثيرة، أو بغير ذلك.
  • ومنها: أنها سببٌ لنزول الخيرات والبركات، وفي الحديث الصحيح: ما منع قومٌ زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء [2].
  • ومنها: أنها تكفِّر الخطايا والسيئات؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار [3].

هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة؛ ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2588.
^2 رواه ابن ماجه: 4019.
^3 رواه ابن ماجه: 3973، وأحمد: 22016.
مواد ذات صلة