الرئيسية/محاضرات/محاضرة في جامع خادم الحرمين بشرورة
|categories

محاضرة في جامع خادم الحرمين بشرورة

مشاهدة من الموقع

المُقدم: الحمد لله الذي جعل في سماء كل فترةٍ من الرُّسل بقايا من أهل العلم يَهْدُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويتحمَّلون منهم الأذى، ويُحْيُون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العَمَى؛ فكم من قتيلٍ لإبليس قد أَحْيَوْه، وكم من ضالٍّ تائهٍ هَدَوْهُ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الغُرِّ المُحجَّلِين، مَن بعثه الله على حين فترةٍ من الرسل، ففتح به قلوبًا غُلْفًا، وأَعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وأغنى به من بعد العَيْلة، وهدى به من بعد الضلالة.

صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أيها الإخوة، عندما تشتدُّ الفتن ويكثر تتابعُها، لا سيَّما في آخر الزمان، وعندما يَمُوج الناس فيها مَوْجًا، ويتخبَّطون في ظَلْمائها خَبْطَ عَشْوَاء؛ كان لا بد لمَن أراد السلامة والنجاة من تلك الفتن أن يعود إلى الأصلين العظيمين: كتاب الله، وسنة نبيِّه على فهم سلفنا الصالح.

والفتن لا يُجلِّيها إلا العلماء الراسخون في العلم، الذين هم ورثة الأنبياء، الذين امتنَّ الله تعالى عليهم بفهم كتابه وسنة نبيه .

ولقد جعل الله في كل خَلَفٍ أناسًا يحملون هذا العلم، يَنْفون عنه انْتِحَالَ المُبْطِلِين، وتحريف الغالين، وتبديل المُضِلِّين.

يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: “إذا أقبلتِ الفتنةُ لم يعرفها إلا العلماء، فإذا أدبرَتْ عرفها كلُّ أحدٍ”.

ويصفها الإمام الجليل والصحابي العظيم عليُّ بن أبي طالب -وهو الذي قد خَبَرَها وقُتِل شهيدًا بسببها- فيقول عن الفتنة: “تبدأ في مدارج خفيَّةٍ، وتؤول إلى فَظَاعةٍ جليَّةٍ؛ فتزيغ قلوبٌ بعد استقامةٍ، وتَضِلّ رجالٌ بعد سلامةٍ، مَن أشرف لها قَصَمَتْه، ومَن سار فيها حَضَنَتْه”.

ثم يقول مُوصيًا باجتناب تلك الفتن والنَّجاة منها: “فإياكم وأعلامَ البِدَع، ومناصب الفتن، والزَمُوا ما عُقِد عليه حَبْلُ الجماعة، وما رُفِعَتْ عليه أركان الطاعة، وأَقْبِلوا على الله مظلومين، ولا تُقْبِلوا عليه ظالمين”. انتهى كلامه رضي الله عنه وأرضاه.

ولم يضرَّ بهذا الدين العظيم مثل جاهلٍ يدعو الناس بجهله، ويُفتيهم بهواه.

مِن جاهلٍ مُتطبِّبٍ يُفتي الوَرَى ويُحِيل ذاك إلى قَضَا الرحمن

فذلك الجاهل لا علم له سوى التكفير، والتبديع، والتضليل، والبهتان، والعياذ بالله تعالى.

ومن هذا المُنطلق، ومن برنامجٍ عظيمٍ تُقيمه اللجنة العلمية، وتُقيمه الأمانة العلمية في هيئة كبار العلماء، بالتشارك والتعاون مع إدارة المساجد والأوقاف والدعوة والإرشاد في محافظة “شرورة”؛ يَسُرُّنا في هذه الليلة، وفي هذه المحاضرة أن نستضيف فضيلة الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان -حفظه الله ورعاه- عضو هيئة كبار العلماء.

سائلين الله العليَّ العظيم أن يُوفِّقه، وأن يُسدِّده، وأن ينفع بعلمه، وأن يجعل خُطًى قادَتْه إلينا في موازين حسناته.

كما نسأل الله العليَّ العظيم أن يُبارك في علمه، ووقته، وجهده، وماله، وأهله، وولده، وأن ينفع بعلمه الإسلام والمسلمين، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

أترككم مع فضيلة شيخنا، فَلْيتفضَّلْ، فتح الله له، وبارك عليه.

الشيخ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهَدْيه، واتَّبع سُنَّته، واقْتَفَى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

حديث حذيفة في الفتن

جاء في “صحيح مسلم” عن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشَّرِّ؛ مخافةَ أن يُدركني، فقلتُ: يا رسول الله، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شَرٌّ؟ قال: نعم، فقلتُ: هل بعد ذلك الشرِّ من خيرٍ؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ … فقلتُ: هل بعد ذلك الخير من شَرٍّ؟ قال: نعم، دُعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قَذَفُوه فيها، فقلتُ: يا رسول الله، صِفْهم لنا. قال: نعم، قومٌ من جِلْدَتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا، قلتُ: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فقلتُ: فإن لم تكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصل شجرةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنت على ذلك [1].

هذا الحديث -أيها الإخوة- أصلٌ عظيمٌ في أبواب الفتن، بيَّن النبيُّ فيه أن الناس تختلف أحوالُهم، فيأتي زمنٌ يكثُر فيه الخير، وزمنٌ يكثُر فيه الشرُّ، وزمنٌ تكثر فيه الفتن.

وقد أخبر أن من أشراط الساعة: كثرة الفتن [2]، ونحن نرى في زمننا هذا الفتن العظيمة: فتن الشُّبهات، وفتن الشهوات، وهذه الفتن ينبغي للمسلم أن يتحصَّن من الوقوع فيها؛ أن يفقه هذه الفتن، ويعرف سُبل الوقاية منها والعصمة، فكم من إنسانٍ كان على الخير والصلاح والاستقامة، ثم فُتِن فتغيَّرت أحواله وانتكس ووقع إما في فتنة شبهةٍ، أو في فتنة شهوةٍ.

وهنا ذكر النبي أن قادة هذه الفتن: دُعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قَذَفُوه فيها، وقال: قومٌ من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ليسوا من الخارج، إنما هم من بني جِلْدتنا، يعيشون بيننا، ويتكلمون بألسنتنا.

وقد أخبر النبي أن هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، قال: افترقتِ اليهود على إحدى وسبعين فرقةً، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلُّها في النار إلا واحدةً، قالوا: مَن هي يا رسول الله؟ قال: مَن كانت على ما أنا عليه وأصحابي [3].

وهذا الخبر من الصادق المصدوق لا بد أن يتحقَّق، فقد نشأتْ على مدار التاريخ الإسلامي فِرَقٌ كثيرةٌ، وبَقِيت الفرقة الناجية المعصومة التي تسير على ما كان عليه النبي وأصحابه، بَقُوا على الحقِّ ظاهرين، لا يَضرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم إلى قيام الساعة.

ونحن الآن -أيها الإخوة- في هذا العصر الذي نعيش فيه انفتح العالم بعضه على بعضٍ، وأصبح الخبر ما أن يقع حدثٌ في أي مكانٍ من الأرض إلا سرعان ما ينتشر ذلك الخبر وينتقل بسرعةٍ عجيبةٍ، فقد انفتح العالم بعضه على بعضٍ.

وقد كان الناس في الزمان السابق إنما يتلقَّى الشابُّ التوجيه والتعليم والتربية من المسجد، ومن المدرسة، ومن أسرته، أما الآن فقد وُجِدتْ مُؤثراتٌ خارجيةٌ تؤثر على أبنائنا، وعلى شبابنا، فلا بد من تحصينهم ضد تلك الفتن؛ ليكونوا في مأمنٍ منها، بإذن الله .

فتن الشبهات

إنَّ من أخطر الفتن: فتن الشبهات، وهي الفتن التي وقعت فيها الفِرَق الثنتان والسبعون، وستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقةً كلها في النار، وهذه الفِرَق الثنتان والسبعون كلُّ فرقةٍ تَدَّعي أنها على الحقِّ، وكلُّ فرقةٍ تأتي بنصوصٍ من القرآن والسنة، وربما من كلام السلف؛ لأن النفوس مجبولةٌ على قبول الحقِّ ورد الباطل، فلو أنَّ أحدًا أتى بباطلٍ مَحْضٍ ما قَبِلَه أحدٌ، لكنهم يأتون بحَقٍّ وباطلٍ، ويُلْبِسون الحقَّ بالباطل حتى تَقْبله النفوس.

فتنة التكفير

من أعظم هذه الفتن، والتي كانت موجودةً، ولكنها بَرَزَتْ في وقتنا الحاضر: فتنة التكفير؛ تكفير المسلمين، وهذا وَلَغَتْ فيه طوائفُ فُتِنُوا به، وأُشْرِبَتْ به قلوبهم، فكفَّروا الحُكَّام، وكفَّروا كثيرًا من العلماء، وكفَّروا كثيرًا من المسلمين، ولم يكتفوا بذلك، بل قادتهم هذه الفتنة إلى فتنٍ أعظم منها؛ فتأوَّلوا نصوصًا نزلتْ في الكفار، وحملوها على المسلمين؛ فأصبحوا يقتلون المسلمين، ويَدَعُون الكفَّار، كما قال النبي : يَقتلون أهلَ الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان [4].

ونحن نرى هذه الجماعات تَضرب أطنابها في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي اليوم، ونرى جماعات التكفير تَقتل أهلَ الإسلام، وتَدَعُ أهلَ الأوثان، لم نجد يومًا من الأيام أنهم أطلقوا رصاصةً على إسرائيل، لم نجد أنهم أطلقوا رصاصةً على اليهود في فلسطين، وإنما قتلاهم من المسلمين، فيصدق عليهم وصف النبي بأنهم: يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان.

وهذه فتنةٌ عظيمةٌ، جُرأةٌ على الدماء، وجُرأةٌ على الأعراض، تسفك الدماء بأدنى سببٍ، وتنتهك الأعراض، فيُكفَّر المسلمون ويُبدَّعون ويُفسَّقون من دون حجةٍ، وبلا برهانٍ من الله .

اعتناق المبادئ الهدَّامة

كذلك أيضًا من الفتن: الشبهات التي تَعْرِض لبعض المسلمين في دينهم؛ فيَضِلُّون ويعتنقون مبادئ هدَّامةً، ومناهج مُنحرفةً.

فتنة الشهوة

من الفتن: فتنة الشهوة، فيغرق صاحبها في الفساد الأخلاقي، ويُصاب بمرض القلب الذي ذكره الله تعالى في قوله: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].

فالنفوس والقلوب لها أمراضٌ، منها: مرض الشهوة، وهو المذكور في هذه الآية، ومرض حب المال والتَّعلُّق الشديد به، ومرض النَّميمة ونقل الكلام بين الناس … إلى غير ذلك من أمراض النفوس.

سُبل الوقاية من الفتن

هذه الفتن -أيها الإخوة- ما السبيل إلى الوقاية والعصمة منها؟

الصدق مع الله

أولًا: مَن صدق مع الله فإن الله يحفظ عليه دينه، ويَعصِمه من الفتن، والدليل لهذا قول النبي : احفظ الله يَحفظْك [5]، احفظ الله بالصدق معه، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، يحفظك يحفظك في أمور دينك، وأمور دنياك، ولكنَّ حفظ الدِّين أشرف من حفظ الدنيا؛ ولهذا تجد أنَّ مَن صدق مع الله تعالى ما إن تَعْرِض له فتنةُ شبهةٍ إلا ويُقيِّض الله تعالى له مَن يكشفها، وما إن تَعْرِض له فتنةُ شهوةٍ إلا ويعصمه الله منها؛ جزاءً له لصِدْقه مع الله وإخلاصه.

ولهذا فإن يوسف عليه الصلاة والسلام -نبي الله ، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جدِّه نبيٌّ، الذي أُعطي شطر الحُسن- لما عَرَضَتْ له فتنةٌ عظيمةٌ؛ باعه إخوتُه بثمنٍ بَخْسٍ -دراهم معدودة- ولا ذنب له إلا أن أباه كان يُحبه أكثر منهم، فبِيعَ رقيقًا، اسْتُرِقَّ وأصبح رقيقًا لدى عزيز مصر.

ثم إن امرأة العزيز فُتِنَتْ به فتنةً عظيمةً، كما قال عزَّ من قائلٍ: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، تهيَّأت له، وقد قيل: كانت امرأةً جميلةً، وكان يوسف شابًّا عَزَبًا غريبًا، والغريب لا يستنكف كما يستنكف غيره.

فاجتمعتْ أسباب الفتنة، والمرأة هي التي دَعَتْه، وهي سيِّدَتُه، فغلَّقت الأبواب.

انظر إلى عِظَم الفتنة!

قال ​​​​​​​: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ۝ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:23-24]، أي: أنه لولا برهان ربه لهَمَّ بها، لكنه لم يهمّ، لماذا؟

لأنه كما قال ​​​​​​​: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ [يوسف:24].

فتأمَّل قوله: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، لماذا؟

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]؛ جزاءً له على إخلاصه، فَصَرَف الله عنه السُّوء والفحشاء، وعَصَمه من هذه الفتنة؛ جزاءً له على إخلاصه.

فدلَّ ذلك على أن الإخلاص والصدق مع الله من أعظم أسباب العِصمة والوقاية من الفتن؛ ولهذا فإن مَن يقع في فتنةٍ -سواء أكانت فتنة شبهةٍ أو شهوةٍ- إذا تأملتَ في حاله تجد أن عنده خللًا في تديُّنه، فلو كان صادقًا مع الله مُخلصًا لعَصَمه الله تعالى كما عصم يوسف ، قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.

إذن فالصدق مع الله والإخلاص لله تعالى هو من أعظم أسباب العِصمة من الفتن.

الضَّراعة إلى الله

أيضًا من أسباب الوقاية من الفتن: الضَّراعة إلى الله ، وسؤال الله الوقاية من الفتن والعصمة منها، فإن الإنسان -يا إخواني- ضعيفٌ بطبعه، قال ​​​​​​​: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، فالإنسان ربما يُحِب ما كان يكرهه بالأمس، ويكره ما كان يُحِبُّه بالأمس، والأمور تتغيَّر، والأحوال تتغيَّر.

فالإنسانُ بطبعه ضعيفٌ، فعليه أن يَضْرع إلى الله تعالى أن يُثبِّته ويُثبِّت قلبه على دينه، ويُصرِّف قلبه على طاعته، ولا يُزِيغ قلبه، ويعصمه من الفتن؛ ولهذا ذكر الله تعالى من دعاء أُولي الألباب فقال: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ۝ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:7-8].

تأمَّلوا يا إخواني هذا الدعاء العظيم الوارد في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

انظروا إلى عَظَمة هذا الدعاء، وعظيم نفعه وفائدته وأثره: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، فتوسَّلوا إلى الله بهدايته لهم ألا يُزِيغَ قلوبهم، وأن يُثبِّتهم ويعصمهم، ثم سألوا الله الرحمة: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

فهذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي ينبغي أن يَلْهَجَ بها المسلم.

ينبغي يا أخي الكريم أن تدعو الله كل يومٍ بهذا الدعاء، قل: ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

كل يومٍ اجعله مع أذكار الصباح والمساء: ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

فقد ذكر الله تعالى هذا في دعاء أولي الألباب؛ أصحاب العقول السليمة الراشدة، وكان من أكثر دعاء النبي : يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دِينك، يا مُصرِّف القلوب، صرِّفْ قلبي على طاعتك، فقيل: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! قال: إنَّ قلوب العباد بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء [6].

فكم من إنسانٍ كان مظهره مظهر أهل الخير والصلاح والاستقامة، ثم إذا به فجأةً تتغيَّر أحواله؛ فيقع إما في فتنة شبهةٍ، أو في فتنة شهوةٍ.

فلا يعتمد الإنسان على نفسه فقط؛ لأنه بشرٌ ضعيفٌ، فينبغي أن يَضْرع إلى الله أن يعصمه من الفتن، وأن يُثبِّت قلبه على دينه، وأن يصرف قلبه على طاعته، وأن يقول ويدعو ويُكْثِر من هذا الدعاء: ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

لزوم جماعة المسلمين

من أسباب الوقاية من الفتن: لزوم جماعة المسلمين، فإنَّ لزوم الجماعة عِصمةٌ من الفتن -بإذن الله تعالى-؛ ولهذا فإنه لمَّا سأل حذيفةُ النبيَّ وقال: يا رسول الله، فما تأمرني إن أَدْرَكني ذلك؟ يعني: إن أدركني زمن الفتن، فإنه قال له: تلزم جماعة المسلمين وإمامَهم [7].

فما دام أن الأُمَّة مجتمعةٌ على الحقِّ، وعلى إمامٍ واحدٍ، فكن مع الجماعة، ولا تَشِذَّ عنهم برأيٍ أو فكرٍ أو منهجٍ، الزَمْ جماعة المسلمين وإمامَهم؛ ولهذا يقول النبي : مَن خرج على أُمَّتي يضرب بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مُؤمنها، ولا يَفِي لذي عهدٍ عهدَه؛ فليس منِّي، ولستُ منه [8] أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”.

الجماعة في الإسلام لها منزلةٌ عليَّةٌ، فلزوم جماعة المسلمين ووحدة الأمة لها منزلةٌ رفيعةٌ في الأمة الإسلامية وفي دين الله ؛ ولهذا يقول النبي : مَن أتاكم وأَمْرُكم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يُريد أن يَشُقَّ عصاكم، أو يُفرِّق جماعتكم؛ فاقتلوه [9] رواه مسلم.

مع أن القتل في الإسلام ليس بالأمر الهيِّن، وهو من كبائر الذنوب، لكنَّ شقَّ عصا الطاعة وتفريق كلمة المسلمين ليس بالأمر الهين كذلك، فاجتماع الأُمَّة على رجلٍ واحدٍ، ووحدة الأمة وائتلافها، هذا من أعظم النعم التي ينبغي أن نشكر الله تعالى عليها، وأن نُحافظ عليها.

ونحن نرى -أيها الإخوة- حثَّ الشريعة على لزوم الجماعة في صورٍ شتَّى، ومن ذلك: أنها أوجبتْ على الرجال أن يُصلوا جماعةً خمس صلواتٍ في اليوم والليلة في المسجد، فيجتمع الرجال خمس مراتٍ في اليوم والليلة؛ لكي يُصلوا جماعةً في المسجد.

فإذا كان المقصود الصلاة فقد يُصلي الإنسان في بيته، وربما تكون صلاته في بيته أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد.

إذن فما المقصود من صلاة الجماعة في المسجد؟

المقصود أن يجتمع المسلمون، وتحصل بينهم الأُلفة والمحبة والمودة، والتكافل والتراحم والتعاون، فيكونوا بنعمة الله إخوانًا.

هذا هو المقصود من صلاة الجماعة؛ فلهذا كان أفضل مسجدٍ يُصلِّي فيه الإنسان صلاة الجماعة -فيما عدا المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى- هو أقرب مسجدٍ لبيته؛ لماذا؟

لأنه إذا كان يصلي في أقرب المساجد إلى بيته فإنه يُحقِّق المقصود من صلاة الجماعة.

وتجد بعض الناس كل وقتٍ في مسجدٍ، فقد مَنَّ الله تعالى على الناس بالسيارات، فتجد أنه يذهب بسيارته كل وقتٍ إلى مسجدٍ.

هذا وإن كان لم يرتكب أمرًا مُحرَّمًا -أعني: أنه لا بأس بفعله- لكن الأحسن والأولى والأفضل أن يُصلي مع جماعة الحيِّ، وجماعة المسجد، وأن يكون معهم، وأن يُقوِّي علاقته بهم؛ لتَسُودَ روح المحبة والمودة والوئام، والتكافل والتراحم بين أفراد المجتمع.

هذه من أعظم مقاصد الشريعة، فالشريعة الإسلامية تحرص على الجماعة، وعلى الاجتماع، وعلى وحدة الكلمة، وعلى نَبْذ الفِرَق.

إذن فإن من أسباب الوقاية والعصمة من الفتن: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.

اختيار الصُّحبة الصالحة

من الأسباب أيضًا: اختيار الصحبة الصالحة، فالإنسان يتأثَّر بجُلَسائه، وقد قيل: إن كلَّ إنسانٍ يتأثَّر بأكثر خمسة جُلَساء له في الحياة تأثُّرًا كبيرًا، فإن كان جُلساؤه أهل خيرٍ وصلاحٍ، يُعِينونه إذا ذَكَر، ويُذكِّرونه إذا نَسِيَ؛ فإنه سوف ينتفع بهم، ويستفيد منهم، فإذا أخطأ قَوَّمُوه، وإذا أصاب أعانوه، هؤلاء هم الجُلساء الصالحون.

أما إذا كان جُلساؤه يتسبَّبون في الوقوع في المعاصي، وربما يُلْقون عليه شُبَهًا، فهؤلاء لا خير فيهم، والشُّبهة إذا وَقَرَتْ في القلب يَصعُب خَلَاصُها.

فينبغي أن تَحرص يا أخي على اختيار الجُلَساء الصالحين، فإذا وجدتَ زيادةً في دِينك من المُجالسة فاعلم أن هؤلاء جُلَساء خيرٍ وصلاحٍ، أما إذا وجدتَ نقصًا في دينك من مُجالسة هؤلاء فابتعِدْ عنهم، فهؤلاء لا خير فيهم.

يقول النبي : مَثَلُ الجَلِيس الصالح والجليس السُّوء كحامل المِسْك ونافِخ الكِير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك يعني: إما أن يُهْدِي لك هديةً، وإما أن تَبتاع منه تشتري، وإما أن تجد منه ريحًا طيِّبةً يعني: لستَ منه بخاسِرٍ، فعلى الأقل تَشُمُّ منه الرائحة الطيبة، ونافِخ الكِير إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثةً [10].

فينبغي إذن أن يحرص المسلم على الجُلَساء الطيِّبين، الصالحين، الذين يُعِينونه على طاعة الله .

الاعتبار بمَن فُتنوا

من أسباب العِصمة من الفتن: التأمُّل والتفكُّر والاعتبار، فيعتبر المسلم بمَن حوله، ليعتبر بأناسٍ كانوا أهلَ خيرٍ وصلاحٍ ففُتِنوا؛ فكم من إنسانٍ كان محافظًا على الجمعة والجماعة، بارًّا بوالديه، حريصًا على الخير، ثم وقع في فتنة شبهةٍ بدأتْ أول ما بدأتْ بمُجالسةٍ، ووَقَرتْ في قلبه شبهةٌ، ثم نَفَخ فيها الشيطان وتحولت إلى أن التحق بهذه الجماعات، ووقع في هذه الفتنة العظيمة، وربما قَتَل مسلمًا بسبب هذه الفتنة، وربما أراق دمًا، وربما كفَّر مَن لا يستحقُّ التكفير، كل ذلك بسبب هذه الفتن العظيمة.

فلنعتبر أيها الإخوة بما نراه في الوقت الحاضر، وأيضًا نأخذ العِبرة مما كان في الزمن الماضي.

لما تُوفِّي النبي أتى بعده أبو بكرٍ الصديق ، وكانت مدة خلافته قصيرةً: سنتين وأشهرًا، ثم أتى عمر ، فكان شديدًا على أهل البدع، وعلى مَن يُريد تفريق كلمة المسلمين، فقيل له: إن فلانًا قَدِمَ المدينة وبدأ يُشكِّك الناسَ ويأتي بنصوصٍ يضرب بعضها ببعضٍ. فقال: اللهم أمكنِّي منه. ثم إنه لَقِيَه، وقيل: هذا هو فلان. فأخذ دِرَّتَه وضَرَبه حتى قال: والله يا أمير المؤمنين لا أجد شيئًا مما كنتُ أجده من قبل من الشكوك والوساوس، زال عني كلُّ الذي كنتُ أجده. قال: اذهب إلى الناس وأخبرهم أنك قد طلبتَ العلمَ وأخطأتَ.

فقد كانت له هيبةٌ، ولا أحد يتجرَّأ على أن يَبُثَّ في الناس شُبَهًا أو تشكيكاتٍ في أمور دينهم أو بدعًا.

ثم بعد وفاة عمر وَلِيَ الخلافة عثمان ، وبقي الناس قُرابة ثماني سنين على ما كانوا عليه في عهد عمر ، ومع اتِّساع رُقعة الدولة الإسلامية دخل في المجتمعات الإسلامية مَن يريدون بَثَّ الفُرقة، فكان منهم ابنُ سبأ الذي بدأ بإيقاد الفتنة في المسلمين.

لاحظ: شخصٌ واحدٌ تسبَّب في إيقاد الفتنة في المجتمعات الإسلامية في ذلك الزمان، لكن إذا ذهب إلى بلدانٍ فيها علماء طُرِدَ منها ولم يسمع له أحدٌ.

انظر إلى أثر العلماء في البلد.

وإذا ذهب إلى بلادٍ يَقِلُّ فيها أهلُ العلم فإنه يجد مَن يسمع له، فركَّز على هذه البلاد، ركَّز على بعض الأطراف التي يَقِلُّ فيها العلماء، ووجد مَن يسمع له، وكانت شرارة الفتنة انطلقتْ من شَحْنِه للنفوس ضد الخليفة عثمان بن عفان ، فقام يجمع على عثمان أنه يفعل كذا، ويفعل كذا، ويفعل كذا.

ثم ما اكتفى بهذا، بل زوَّر كتبًا على عثمان ، وزوَّر خَتْمَ عثمان ، حتى أَوْقَد فتنةً؛ فشُحِنتْ النفوس ضد عثمان ، ثم أَتَوا يُريدون قَتْله باسم الدِّين، فتصدَّى لهم كبارُ علماء الصحابة، فقالوا: إن فِعْلكم هذا لا يجوز. لكن لم يسمعوا لهم وقالوا: هؤلاء علماء سلطانٍ! هؤلاء مُدَاهنون!

كيف يكونون علماء سلطانٍ: ابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وعلي بن أبي طالبٍ، وكبار الصحابة من العشرة المُبشرين بالجنة؟!

فأصبحوا لا يقبلون من أحدٍ شيئًا، وحاصَروا منزل عثمان  حتى قتلوه وهو يقرأ القرآن، وهو صائمٌ، وقد رأى النبيَّ في المنام وقال له: يا عثمان، أَفْطِرْ عندنا [11]، وسقطتْ قطرةٌ من دمه على قول الله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137].

ثم نشأت بعد مقتل عثمان فتنٌ عظيمةٌ، وقامت هذه الطوائف، وتفرَّعتْ عنها طوائف أخرى وفِرَقٌ وجماعاتٌ، ثم أرادوا أن يقتلوا علي بن أبي طالب باسم الدِّين، باسم إنكار المنكر، باسم الغَيْرة، وبالفعل قتلوا علي بن أبي طالب ، أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المُبشرين بالجنة.

نسأل الله السلامة والعافية.

لاحظوا: الانحراف كيف يصل بصاحبه …؟!

الذي قَتل علي بن أبي طالبٍ كان يُقال: إن في جبهته أثر السجود!

أثر السجود في جبهته! فهو عابدٌ من العُبَّاد!

وقد قيل له: كيف تقتل أمير المؤمنين، أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المُبشرين بالجنة؟!

أتدرون ماذا قال؟

قال: هذا أرجى عملٍ أتقرَّب به إلى الله!

نسأل الله السلامة والعافية.

انظر إلى الانحراف والفتنة، كيف تصل بالإنسان إلى هذه الدرجة؟!

فهذا إنسانٌ من كثرة صلاته على جبهته أثر السجود، يذهب ليقتل علي بن أبي طالبٍ أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، خليفة المسلمين!

فانظر كيف أن الفتنة تصل بالإنسان إلى هذه الدرجة؟!

كما قال ​​​​​​​: زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].

هذا يُبيِّن لنا يا إخواني خطورة المسألة، وأن التَّدين إذا لم يُصاحبه علمٌ وبصيرةٌ وتثبيتٌ من الله  فقد ينحرف معه الإنسان ويقع في الفتنة من حيث لا يشعر.

ثم نشأتْ تلك الفِرَق، فأتى ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما للخوارج وناظَرَهم، حيث كانت عندهم شُبَهٌ، وأصبح يُناظرهم ويُناظرهم ويُناظرهم حتى رجع كثيرٌ منهم إلى الحقِّ، وبَقِيَ منهم مَن بقي.

ثم ما زالت تلك الفِرَق في المجتمعات الإسلامية: تارةً تَخْبُو، وتارةً تظهر، حتى كان القرن الرابع الهجري، فظهرت تلك الفِرَق الباطنية، وقَلَعَتِ الحجرَ الأسود، وبَقِيَ الناسُ يطوفون بالكعبة بدون الحجر الأسود قُرابة اثنتين وعشرين سنةً.

لاحظ: كيف وصلتْ إلى هذه الدرجة؟!

نِعَمُ الله على بلاد الحرمين

قيَّض الله تعالى مُصْلِحين من حُكَّامٍ وعلماء، فوقفوا في وجوه هؤلاء المُبتدعة.

ففي هذه البلاد قيَّض الله تعالى الإمام المُجدِّد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فقام بالدعوة الإصلاحية التي تهدف إلى تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله ، وبَقِي أثر هذه الدعوة المباركة إلى الآن، فنحن -ولله الحمد- نجد صفاء العقيدة في هذه البلاد؛ فليست عندنا شركيَّاتٌ، وليست عندنا بدعٌ ظاهرةٌ على السُّنة.

ولله الحمد ليس عندنا تعصُّبٌ لمذهبٍ من المذاهب، إنما التعصُّب عندنا لـ”قال الله، قال رسوله “، تعصُّبٌ للحقِّ.

فنحن بهذه النِّعم في نعمةٍ عظيمةٍ ينبغي أن نُحافظ عليها، ونشكر الله تعالى عليها، ونحرص على تحصين مجتمعنا من هذه الفتن، ونحرص على الاجتماع والوحدة، وعلى تأليف القلوب، كما قال ​​​​​​​: رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [القصص:57].

نحن -أيها الإخوة- في هذا البلد في أمنٍ وأمانٍ، واستقرارٍ ورخاءٍ ورَغَدِ عيشٍ -ولله الحمد-، تأتينا فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، تتسابق كبرى الشركات على تصدير أحسن مُنتجاتها إلينا، قال ​​​​​​​: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].

لاحظ: قول الله ​​​​​​​: يُجْبَى يعني: بغير اختيارهم، جِبَايةً بغير اختيارٍ، فتأتينا ثمراتُ كلِّ شيءٍ: حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ.

سبحان الله!

هذه من النِّعَم العظيمة التي ينبغي أن نحمد الله تعالى عليها، فكثيرٌ منا -يا إخواني- يعيش عِيشة الملوك التي ذكرها الله تعالى في قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20].

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت عنده دارٌ وزوجةٌ وخادمٌ سَمَّوه: ملكًا”، يعني: يعيش عِيشة ملوكٍ؛ مصداقًا لقوله ​​​​​​​: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.

فكم من إنسانٍ منا يعيش عِيشة ملوكٍ.

فلنَحْمد الله على هذه النِّعَم، ولنشكر الله تعالى عليها، وقد وضع النبي لنا منهجًا عظيمًا فقال: انظروا إلى مَن أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم، فهو أجدر ألا تَزْدَرُوا نِعْمة الله عليكم [12] يعني: لا يتطلَّع الإنسان إلى مَن هو فوقه، بل يتطلع إلى مَن هو أقل منه، كيف أنَّ الله تعالى فضَّله عليه في أمورٍ كثيرةٍ؟

العبادة بعلمٍ وبصيرةٍ

أيها الإخوة، الإنسان ما خُلِقَ إلا لعبادة الله ، ولا يمكن أن يعبد الله سبحانه إلا عن طريق العلم، فمهما كان عليه المرء من القوة في العبادة لا يمكن أن يعبد الله كما يُحِبُّ اللهُ ويرضاه إلا عن طريق العلم، وإلا فإنه إذا اجتهد في العبادة بعيدًا عن العلم فإنه ربما يَضِلُّ، وربما ينحرف، وربما يقع في الفتنة.

ولهذا ينبغي أن نحرص على بَثِّ العلم الشرعي في المجتمع، وأن نحرص كذلك على الارتباط بأهل العلم، خاصةً العلماء الراسخين، وأن نحرص على الارتباط بهم، وعلى ربط العامة بهم، فإن هذا أيضًا من أسباب الوقاية من الفتن.

وأن نحرص كذلك على البُعد عن مواطن الفتن، وهذا له أصلٌ، وهو قول النبي : مَن سمع بالدَّجَّال فَلْيَنْأَ منه [13] يعني: فليبتعد عنه. رواه أحمد وأبو داود.

يعني: إذا سمعتَ المسيح الدجال لا تَقُل: عندي قوة إيمانٍ، وعندي كذا، ابتعد عنه، ابتعد عن الفتن.

ومن هنا، فإنَّ من سُبُل الوقاية من الفتن: الابتعاد عنها.

فقد يدخل بعضُ الشباب بعض المواقع على (الإنترنت) بدافع الفضول، وربما يدخل مواقع فيها شبهات، فتستقر هذه الشبهات في النفوس، ثم يصعب خلاصها، فإذا استقرت الشبهة في النفس ربما يَصْعُب أن تخرج.

ثم إن هذه الشُّبهة تتولَّد معها شُبُهات، حتى يقع الإنسانُ في الفتنة من حيث لا يشعر، فالوقاية في البعد عن مواطن الفتن، وعن الجُلساء الذين يقودون الإنسان للوقوع في الفتن.

فإذا وجدتَ شخصًا عنده لَوْثةٌ في فِكْره، وفي منهجه، وفي طريقته، ابتعد عنه؛ لأنك ربما تجلس وتأنَس به، ثم يُلقي عليك شُبَهًا؛ فتقع في الفتن من حيث لا تشعر.

وكذلك أيضًا ابتعد عن المواقع التي تَعْرض الشُّبهات، سواءٌ كانت فتن شبهاتٍ تعرضها في مواقعها، أو كانت فتن شهواتٍ، فالبُعد عنها من أسباب العصمة من الفتن، بإذن الله .

وَلْيَحرص المسلم على الارتباط بكتاب الله ، فإن فيه العصمة من الفتن، والوقاية من الفتن والمَخْرج.

كتاب الله تعالى فيه نَبَأُ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحُكم ما بيننا، هو الفصل، ليس بالهَزْل.

ينبغي أن يرتبط المسلم بكتاب الله: تلاوةً، وحفظًا، وتدبُّرًا، وعملًا، وأن يكون له في كل يومٍ وِرْدٌ أو حزبٌ يقرؤه لا يَقِلُّ عنه، هذا هو هَدْي النبي وصحابته ، كان لكلٍّ منهم حزبٌ، ليس حزبًا بالمعنى الاصطلاحي عند أهل التجويد، ولكنه حزبٌ يقرؤه كل يومٍ، يقرؤه بتدبُّرٍ وتأمُّلٍ.

هذا من أسباب الوقاية من الفتن؛ لأنه من أسباب زيادة الإيمان وتقويته، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فمُجرد أنهم يسمعون آيات الله تُتلى يزيد إيمانهم، وكذلك إذا قرؤوا القرآن زاد إيمانهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا.

فينبغي أن يكون لكلٍّ منا -أيها الإخوة- حزبٌ يقرؤه كل يومٍ، وقد قال النبي في هذا: مَن نام عن حِزْبه أو عن شيءٍ منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتِبَ له كأنما قرأه من الليل [14] رواه مسلم.

أيها الإخوة، نحن في هذا الزمن في زمانٍ كثُرت فيه الفتن، ولا عاصِم منها ولا مُنْجِي إلا الضَّراعة إلى الله في أن يُثبِّت المسلم ويقيه من هذه الفتن، ومن مُضِلَّات الفتن، وأن يحرص على بذل الأسباب، ومن ذلك: أن يحرص على التبصُّر في أمور دينه، وعلى طلب العلم، وعلى الارتباط بطلب العلم، وأن يحرص كذلك على مُجالسة أهل الخير والتقوى والصلاح، وأن يبتعد عن مواطن الشُّبَه.

هذه -بإذن الله- كلها مما يَقِي ويَعْصِم من الفتن.

أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اللهم إنا نعوذ بك من مُضِلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اللهم إنا نعوذ بك من مُضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

اللهم يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، ويا مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

اللهم أَعِنَّا على ذِكْرك، وعلى شكرك، وعلى حُسن عبادتك.

اللهم استعمِلْنا في طاعتك، ووفِّقْنا لتَدَارُكِ ما تبقَّى من أعمارنا في طاعتك وحُسن عبادتك، يا حيُّ، يا قَيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

السؤال: ذكرتُم أنَّ مَن يُحرِّض الناس على ولاة الأمر هم دُعاةٌ على أبواب جهنم، فهل مَن دعا إلى الثَّورات من هؤلاء الدُّعاة؟

الجواب: مَن دعا إلى تفريق كلمة المسلمين ووحدة الصفِّ فلا شكَّ أن مسلكه خطأٌ، لكنَّ تنزيل ذلك على شخصٍ معينٍ فيه خطورةٌ، فالتنزيل على شخصٍ معينٍ أو على أشخاصٍ مُعينين -سواءٌ كان ذلك في الكفر، أو في النصوص الواردة في أشراط الساعة- هذا فيه مَزَلَّةُ أقدامٍ.

فينبغي أن يكون عند المسلم ورعٌ، حتى لقد قال أهل العلم: إن ما ذكره النبي من أشراط الساعة لا يُجْزَم بها إلا بعد وقوعها.

هل تذكرون حرب الخليج الأولى، ثم حرب الخليج الثانية؟

لما أتت حرب الخليج الأولى قام بعضُ طُلَّاب العلم وذَكَروا أحاديث وردتْ في أشراط الساعة ونزَّلوها عليها، ثم تبيَّن أن هذا كلامٌ غير صحيحٍ، وهكذا حرب الخليج الثانية.

فلا يُستهان بالنصوص فتُنزَّل على مثل هذه الأحداث، فهذا فيه عدم احترامٍ للنصوص، فينبغي التثبُّت وعدم العَجَلة، وألا تُنزَّل النصوص إلا بعد وقوعها وبعد استبانتها واستيضاحها، لكن يُحذَّر تحذيرًا عامًّا كلُّ مَن شقَّ عَصَا المسلمين، أو تسبَّب في فُرْقة المسلمين.

السؤال: نهى أئمتُنا عن الجلوس مع أهل البدع وسماع حديثهم، وتَعْلم أن هناك قنواتٍ تُنسَب للإسلام، وهي تبث الشُّبَه ليلًا ونهارًا.

الجواب: القنوات التي يُبَثُّ فيها السُّوء كثيرةٌ، و(الإنترنت) أيضًا فيه من السوء ما هو أكثر؛ ولهذا ينبغي تحصين المجتمع.

هناك قنواتٌ تبُثُّ الشُّبَهَ، وقنواتٌ تبث لديها الانحراف الأخلاقي، وتريد إفساد الناس في أخلاقهم، وهناك أيضًا مواقع على (الإنترنت) كذلك.

ومن هنا تتأكَّد المسؤولية في تحصين المجتمع على الآباء، وعلى الدُّعاة، وعلى الخُطَباء، وعلى المُصلحين؛ لتحصين المجتمع من هذه الأخطار.

الأخطار صارت الآن -يا إخواني- كثيرةً، مُحيطةً بنا، إن أتيتَ القنوات ففيها ما فيها من الغَثِّ والسَّمين، وإن أتيت (للإنترنت) فكذلك.

أصبحتْ مصادر التأثير الآن كثيرةً، أما في السابق فلم يكن إلا المسجد والبيت والمدرسة، وأما الآن فمصادر التأثير على المجتمع كثيرةٌ.

ومن هنا تأتي مسألة تحصين المجتمع من الانزلاق والوقوع في فتن الشبهات أو فتن الشهوات.

السؤال: سمعتُ أحد الناس يُحِلُّ دَمَ مَن أساء إلى النبيِّ .

الجواب: المسألة -يا إخواني- أن التكفير وتحليل الدَّم من المسائل العظيمة، وعند العلماء قاعدةٌ: ليس كلُّ مَن وقع في الكفر يكون كافرًا، فقد يقع الإنسان في الكفر ولا يكون كافرًا؛ لموانع: إما -مثلًا- لجهلٍ، أو تأويلٍ، أو إكراهٍ.

ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: كان رجلٌ يُسْرِف على نفسه، فلما حضره الموتُ قال لبَنِيه: إذا أنا متُّ فأَحْرِقُوني، ثم اطحنوني، ثم ذَرُوني في الرِّيح، فوالله لئن قَدَر عليَّ ربِّي لَيُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا. فلما مات فُعل به ذلك، فأمر اللهُ الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه. ففعلتْ، فإذا هو قائمٌ، فقال: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: يا رب، خشيتك. فغَفَر له [15].

أما الشَّكُّ في القدرة أليس كفرًا؟

والله لئن قَدَر عليَّ ربي لَيُعذِّبني عذابًا ما عذَّبه أحدًا هذا شكٌّ في قدرة الله، والشكُّ في قدرة الله كفرٌ، فهذا الرجل قد وقع في الكفر، لكن هل كان كافرًا؟

لم يكن كافرًا، بل غَفَر اللهُ له.

إذن فليس كلُّ مَن وقع في الكفر يكون كافرًا، فقد يكون هذا الإنسان جاهلًا، وقد يكون مُتأوِّلًا، وقد يكون مُكْرَهًا، وقد يكون فيه غير ذلك؛ لذلك فإن تنزيل الكفر على المُعيَّن ذَكَر العلماء له شروطًا ثقيلةً، منها: إقامة الحُجة عليه، فإقامة الحُجة عليه لا بد منها؛ ولذلك فليس كلُّ إنسانٍ مُخولًا بأن يُفتي بالكفر وتنزيل الكفر على شخصٍ معينٍ.

أما الكافر الأصليُّ -كالكافر اليهودي أو النصراني- فهذا كافرٌ.

أما مع مسلمٍ وتريد أن تنقله من الإسلام إلى الكفر، فإن تنزيل هذا على الشخص المعين له شروطٌ ثقيلةٌ، ولا يكون إلا من كبار أهل العلم الراسخين في العلم؛ لكي يعرفوا مدى انطباق الشروط على هذا الشخص.

السؤال: علماء ودُعاة المملكة لهم حضورٌ متميزٌ في العالم الإسلامي، وهذا الحضور ساهم كثيرًا في نشر الحقِّ في أوساط المسلمين، ومما يُشوِّش على هذا ظهور مَن يُبدِّع كثيرًا من الدعاة والعلماء المشهورين الذين لهم أثرٌ في أوساط المسلمين ويُصنفهم، وهذه الظاهرة لها أثرٌ سلبيٌّ في قبول دعوة الحقِّ.

الجواب: نعم، هذه حقيقةٌ وواقعٌ مع الأسف، فتجد بعضَ الناس ليس له جهدٌ إلا في تصنيف الناس: هذا كذا! وهذا كذا! ويقع في أعراض المسلمين، وهذا من الشيطان الذي قال عنه النبيُّ : إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم [16].

وهذا أيضًا مما يَمْحَق بركةَ العلم، ولا يُصبح لهذا الذي يسلك هذا المسلك بركةٌ، ولا لدعوته، وليس له قبولٌ في أوساط المجتمع، وإذا دعا لم يُسْمَع له، ويُصبح دَيْدَنُه وشغله الشاغل فلانًا، وقال فلانٌ، ويُعرض عن العلم والدعوة، ويُزين الشيطان هذا المسلك للإنسان؛ لأنه يصدّ غيره عن الخير.

وكما ذكر السائل: أنه كان من آثار هذا تشويه بعض الدعاة إلى الله وبعض العلماء، والصدُّ عن الخير، وعن طريق الحق، فمَن سلك هذا المسلك فهو على خطرٍ، فعليه أن يتقي الله ، فقد قال ​​​​​​​: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

السؤال: ما حكم الاحتفال بذِكْرى الزواج على مستوى العائلة؛ بهدف إدخال السرور على الزوجة والأبناء؟

الجواب: الاحتفال بالذكرى ماذا يعني؟

يعني: تعظيم زمنٍ معينٍ يتكرر كل سنةٍ، يقول: هذا الزمن، هذا اليوم من هذا الشهر من هذا العام هو ذكرى الزواج. فيحتفل به.

وهذا هو معنى اتخاذه عيدًا، ما معنى العيد؟

العيد: اسمٌ لما يعود ويتكرر كل عامٍ من الأزمنة، فأيُّ زمنٍ يُعظَّم ويكون متكرِّرًا ويعود كل عامٍ هو عيدٌ.

ولا يجوز اتِّخاذُ عيدٍ سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع هو يوم الجمعة، واتخاذ أعيادٍ سوى ذلك من البدع المُحدثة؛ ولهذا فإن هذا العمل لا يجوز.

ونقول: إذا أردتَ أن تُكْرِم زوجتَك فأكرمها بغير هذا؛ يعني: بالهدية بغير هذا، أما أن تُعظِّم زمنًا معينًا كل سنةٍ، فتحتفل بهذا الزمن بحجة ذكرى الزواج، فإن هذا في معنى اتِّخاذه عيدًا، وهذا لا يجوز.

ومثل ذلك أيضًا عيد الميلاد، فأعياد الميلاد كلها من البدع المُحْدَثة.

والبِدَع لا بد -يا إخواني- من التحذير منها من أهل العلم، ومن الخُطباء، ومن أئمة المساجد، ومن الدُّعاة إلى الله ؛ لأنها إذا سُكِتَ عنها تنتشر في المجتمع انتشار النار في الهَشِيم؛ فلا بد من التحذير منها؛ حتى لا تنتشر.

ونحن -ولله الحمد- في هذه البلاد، البِدَع ليست عندنا ظاهرةً، والسُّنة هي الظاهرة، ولكن قد يتأثَّر بعضُ الناس بغيره، فيسأل مثل هذه الأسئلة، ونحن نقول له: إن هذا من البدع التي تُنْكَر.

السؤال: أودُّ الحديثَ عن فضل السلام ورد السلام بين المسلمين؛ لأن كثيرًا من الناس غفلوا عن هذه السُّنة العظيمة.

الجواب: يقول النبيُّ : والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحابَبْتم؟ أَفْشُوا السلامَ بينكم [17].

إفشاء السلام من أسباب المحبَّة والمودَّة بين أفراد المجتمع، ويُؤجر عليه المسلم، فإذا قلتَ: “السلام عليكم” تنال عشر حسناتٍ، وإذا قلت: “السلام عليكم ورحمة الله” تنال عشرين حسنةً، أما إذا قلت: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته” فتنال ثلاثين حسنةً، أجرٌ عظيمٌ على عملٍ يسيرٍ.

ثم إن السلام يحصل به الأُنْسُ؛ ولذلك لو مَرَّ عليك شخصٌ وما سلَّم عليك فإنك تجد وَحْشةً منه، تقول في نفسك: لماذا لم يُسلِّم عليَّ؟! هل في خاطره عليَّ شيءٌ؟ هل هو هاجرٌ لي؟ هل هو كذا؟ وتتساءل: لماذا لم يُسلِّم عليَّ؟

فالسلام فيه الأُنْسُ؛ ولذلك تجد أن الذي يُكْثِر السلامَ، ويبتدئ الناسَ بالسلام، تجد أنه شخصٌ محبوبٌ في المجتمع.

فينبغي الحرص على إفشاء السلام، بمعنى: كثرة السلام، فإذا دخلتَ المسجدَ فسلِّم على الحاضرين، وكذلك أيضًا إذا أدَّيْتَ تحية المسجد أو السُّنة الراتبة فسلِّم على مَن في يمينك، ومن على يسارك، وإذا أردتَ أن تنصرف من المسجد فسلِّم كذلك، وإذا دخلتَ مسجدًا فسلم كذلك، فقد كان النبيُّ ذات يومٍ جالسًا في المسجد، فأتى رجلٌ وصلى ركعتين، وأتى وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وقال: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ، فرجع وصلَّى، ثم أتى وسلَّم، فرد عليه السلام وقال له: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ، ثم رجع وصلَّى، ثم أتى وسلَّم -لاحظ: المرة الثالثة سلَّم- فردَّ عليه السلام وقال: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصلِّ، قال: والذي بعثك بالحقِّ لا أُحسن غير هذا، فعلِّمْني. فعلَّمه النبيُّ الطُّمأنينة في الصلاة قال: إذا قمتَ إلى الصلاة فاستقبِل القبلةَ وكبِّر، واقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا … إلى آخر الحديث [18].

الشاهد من هذه القصة: أن هذا الرجل كرَّر السلامَ ثلاث مراتٍ، مع أن الفاصل يسيرٌ، وهو فاصِلٌ زمانيٌّ، وليس فاصلًا مكانيًّا، فكما جاء في بعض الروايات: أدَّى تحيَّة المسجد، نَقَرَها بسرعةٍ، كم تأخذ؟ يمكن أن تأخذ دقيقةً أو أقلَّ، ثم أتى وسلَّم، فردَّ عليه السلام ثلاث مراتٍ، وأقرَّه النبي على تكرار السلام.

إذن ينبغي إفشاء السلام في المجتمع، وأن يحرص المسلم على أن يبتدئ بالسلام: خيرهما الذي يبدأ بالسلام [19].

وكما ذكر الأخ الكريم: بالفعل تجد أحيانًا بعض الناس يدخل مكانًا ولا يُسلِّم، يدخل مجلسًا ولا يُسلِّم، يُقابل المسلم أخاه ولا يُسلِّم، هذا خطأٌ، ينبغي أن نُفشي السلام في المجتمع: أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم [20].

السؤال: كيف يفعل مَن ابتُلي بقريبٍ له يعتقد فِكْر الخوارج؟

الجواب: عليه أن يَبْذُلَ له النصيحة؛ لأن هذا الذي يعتقد فِكْر الخوارج لديه شُبُهاتٌ، وبعض الناس ليست لديه شبهاتٌ، لكن عنده ردَّة فعلٍ تجاه موقفٍ معينٍ، فتجد أنه يتعاطَف مع هؤلاء بسبب ردَّة الفعل التي لديه، وهذا منهجٌ خاطئٌ، يعني: إِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].

فالمسلم على الحقِّ، سواءٌ أُعْطِيَ أو لم يُعْطَ؛ أُعْطِيَ من الدنيا أو لم يُعْطَ؛ لأنه يريد ما عند الله ، ويريد الدار الآخرة.

فبعض الناس قد يعتنق مثل هذه الأفكار، أو يتعاطَف معها؛ لهذا السبب: أنه لم يُعْطَ من الدنيا، لكن لو أُعْطِيَ منها لرَضِيَ وسكت.

وبعض الناس قد تكون شبهاتٌ وقعتْ لديه، ويحتاج إلى مَن يكشف له الشبهة.

فلعلك من باب الإحسان لقريبك هذا: أن تجلس معه في مكانٍ خالٍ؛ لأن النصيحة في السِّر أبلغُ وأكثرُ نفعًا وأثرًا، فتنفرد به وتخلو به، وتبذل له النُّصْحَ، فتبيِّن له أن هذا المنهج منحرفٌ عن منهج أهل السنة والجماعة، وأن النبيَّ قال عن الخوارج: هم شرُّ الخلق والخليقة [21]، وأنه ربما يتسبَّب في قتل مسلمٍ، ويُريق دم مسلمٍ، أو أنه يتعاطف مع مَن يفعل ذلك؛ فيشترك معه في الإثم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

فابذل له النصيحة بمثل هذا، فإن قَبِلَ فالحمد لله، وإن لم يقبل فقد أبرأتَ ذِمَّتك، لكن لا تُجالِسْه بعد ذلك؛ لأنك إذا أكثرتَ من مُجالَسته فربما هو الذي يَسحبُك معه، ربما هو الذي يَجرُّكَ معه ويُلقي عليك شُبهه.

السؤال: ماذا تقول فيمن قال عن أحد العلماء: هذا مُخطئٌ، وهذا جاهلٌ؟

الجواب: هذا -يا إخواني- من الوقوع في الأعراض، ولا يجوز مثل هذا: التَّنابز بالألقاب، والوقوع في الأعراض، وتصنيف الناس: هذا مُخطئٌ، هذا جاهلٌ، هذا كذا! هذا لا يجوز.

الإمام أحمد رحمه الله لما سأله ابنُه قال: “يا أَبَتِ، هل تَسُبُّ يزيد؟” يعني: يزيد بن معاوية، قال: “متى رأيتَ أباك يَسُبُّ أحدًا؟!”.

ينبغي أن يكون عند المسلم ورعٌ، فلا يتكلم في أعراض العلماء، ولا في غيرهم، ويبتعد عن التصنيف، وينشغل بالدعوة إلى الله ، وبالعلم ونشر العلم، وفيما ينفعه.

شابان: شابٌّ تجد أنه يحرص على طلب العلم، ويحرص على حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وعلى نَفْع الناس وإفادتهم.

وشابٌّ آخر ليس له إلا التصنيف: فلانٌ فيه كذا! وفلانٌ فيه كذا! وليس له أيُّ جهدٍ يُذْكَر: لا في الدعوة، ولا في العلم.

فانظر إلى الفرق بين هذا وهذا:

الأول مُوفَّقٌ؛ انشغل بما ينفعه ويُفيده، وأعرض عما لا ينفعه.

أما الثاني فانشغل بما يَضرُّه، ويَمْحَق بركةَ العلم والدعوة لديه، ويقسو قلبُه بسبب ذلك، ويُصبح طيلة وقته: قِيلَ وقال، وفلانٌ فيه كذا، وفلانٌ فيه كذا! فهو في كل يومٍ يُهْدِي حسناته إلى الآخرين!

هذا -يا إخواني- هو المُفْلِس.

بعض الناس يجمع له حسناتٍ من صلواتٍ يُصليها، ومن أذكارٍ وأدعيةٍ، لكنه إذا أصبح بدأ يُوزِّعها على الناس، فيُوزِّع حسناته على الناس: هذا يَسُبُّه، وهذا يَشتُمه، وهذا يغتابه، وهذا يفعل به كذا.

هذا هو المُفْلِس حقيقةً؛ يقول النبيُّ : أتدرون ما المُفْلِس؟ قالوا: المُفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المُفلِس من أُمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار [22] رواه مسلم.

هذا هو المفلس يا إخواني، يأتي بحسناتٍ، ثم يبدأ يُوزِّعها على الآخرين، وربما لا يكفي هذا التوزيع، فيُؤخذ من سيئات الناس وتُطرح عليه.

هذا هو المُفلِس حقيقةً، بسبب بذاءة لسانه وسوء خُلُقه ذهبتْ حسناته التي عَمِلَها لله ذهبتْ للناس.

فعلى المسلم أن يتَّقي الله ، وأن يبتعد عن الوقوع في الأعراض، وتصنيف الناس، ولَمْزِ الناس، وهذا فيه كذا، وذاك فيه كذا! هذا من الأخلاق الذميمة التي يَكْسِب بها أوزارًا وإثمًا.

السؤال: نُحمِّلُك أمانةً لأهل محافظة شرورة: أنه يوجد فقرٌ لبعض الناس، وهم مُتعفِّفون؟

الجواب: نحث الإخوة على مُساعدتهم وإعانتهم، والبذل للجمعيات الخيرية لسدِّ حاجتهم، فإطعام الطعام من الأعمال الصالحة، ومساعدة المُحتاجين والإحسان إليهم من أمور الخير: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، والإنسان لا يدري: رُبَّ عملٍ صالحٍ يسيرٍ يعمله فينال بذلك مرضاةَ الله تعالى.

أذكر لكم قصةً وقعتْ في عهد النبي ، وهذه القصة أخرجها مسلمٌ في “صحيحه”: تقول عائشة رضي الله عنها: جاءتني امرأةٌ ومعها ابنتان تستطعمني -يعني: فقيرة، ما عندها شيءٌ- قالت: فأخذتْ ثلاث تمراتٍ، فأخذتْ تمرةً، وأعطتْ كلَّ واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، فلما رفعَتِ التمرة إلى فِيها استطعمَتْها ابنتاها، فأخذت التمرة التي تُريد أن تأكلها وشقَّتها نصفين، ولم تأكل شيئًا، وأعطتْ كلَّ واحدةٍ من ابنتيها شِقَّ تمرةٍ، فأعجبني شأنها، فذكرتُ ذلك للنبي .

أتدرون ماذا قال؟

قال : إن الله قد أوجب لها بها الجنة [23].

سبحان الله!

أوجب الله لها بها الجنة: تمرة!

تمرة شقَّتْها بين ابنتيها نصفين فأوجب الله لها بها الجنة؛ لأن هذا إحسانٌ، والإحسان منزلته عَلِيَّةٌ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، فربما تُحْسِن إلى فقيرٍ، أو إلى مسكينٍ، أو إلى محتاجٍ؛ فيكتب الله تعالى لك بسبب ذلك أجرًا عظيمًا، وخيرًا كثيرًا.

وخاصةً هذا الفقير الذي ذكر الأخ السائل أنه مُتعفِّفٌ، السائل إن لم تُعْطِه أعطاه غيرُك، لكن هذا الفقير المُتعفف هو الذي ينبغي أن نحرص عليه: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ … لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، هؤلاء هم الذين فيهم الأجر والثواب.

وقوله: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ فيه إشارةٌ إلى أن غير الجاهل الذي عنده فِرَاسةٌ يعرفهم، مثلًا: من دخله، ما له دخلٌ، وعائلته كبيرةٌ، ولا مصدر لها، فيعرف أنه فقيرٌ مُتعفِّفٌ.

كان رجلٌ من السلف الصالح لا يَمُرُّ عليه يومٌ إلا تصدَّق فيه لله بصدقةٍ، وذات يومٍ لم يجد، بحث وبحث وما وجد، لم يجد إلا بصلًا، فأخذ البصل يريد أن يتصدَّق به، فلقيه أحدُ الناس، قال: هذه الصدقة تطوُّعٌ، ولم يُوجب الله عليك هذا. قال: لا، إني أردتُ ألا يَمُرَّ عليَّ يومٌ إلا تصدقتُ فيه لله بصدقةٍ؛ فقد بلغني عن رسول الله أنه قال: يستظل المؤمن يوم القيامة في ظِلِّ صدقته [24].

فينبغي للمسلم أن يُكْثِر من البَذْل والإحسان والصدقة ولو بالقليل.

السؤال: بعض كبيرات السِّنِّ يعتقدن أنَّ مَن حضر جنازةً، أو غسَّل ميتًا، أو دخل على طفلٍ صغيرٍ في أيامه الأولى قبل الأربعين؛ فإنه يُصاب بأمراضٍ؟

الجواب: هذا كله غير صحيحٍ، ولا أصل له، هذه من الخرافات التي لا أصل لها، ومن الاعتقادات الباطلة.

السؤال: هل صحيحٌ أن النبي قال: “إذا هاجت عليكم الفتن فعليكم باليمن، الإيمان يَمَانٍ، والحكمة يمانيةٌ”؟

الجواب: ليس بهذا اللفظ، إنما الذي ثبت عن النبي أنه قال: الإيمان يَمَانٍ، والحِكْمة يمانيةٌ [25]، لكن لم يَثبُت -فيما أعلم- أنه قال: “إذا هاجت عليكم الفتن فعليكم باليمن”، إنما الأخ السائل أدخل حديثًا في حديثٍ، والمحفوظ: الإيمان يَمَانٍ، والحكمة يمانيةٌ، هذا هو المحفوظ عن النبي .

السؤال: أنا مُسافِرٌ، وصلَّيتُ المغربَ، ثم صليتُ العشاءَ مع جماعةٍ تُصلِّي المغرب، فهل لي أن أجلس في الركعة الثانية وأَقْصُر أم أُتِمَّ الصلاة؟

الجواب: نعم، لك أن تجلس في الركعة الثانية؛ لأنك مسافِرٌ، وصلاة المغرب ليست مقصورةً، فإذا صلَّيت معهم الركعة الثانية، وقام الإمامُ للثالثة، فتُكمل لنفسك وتُسلِّم، أو تنتظرهم وتُسلِّم معهم، والأمر في هذا واسعٌ.

السؤال: لديَّ أسهمٌ في مصرف “الراجحي” لها فترةٌ طويلةٌ، وهي قليلةٌ، فهل فيها زكاةٌ أم لا؟

الجواب: مَن يقتني أسهمًا لا يخلو: إما أن يكون مُستثمرًا، أو مُضاربًا.

“مستثمرًا” يعني: تركها، فلا يبيع ولا يشتري فيها، تركها، يعني: يريد -مثلًا- الاستفادة من غَلَّتها وأرباحها، أو يريد أن يبيعها في المستقبل، المهم أنه تركها؛ فهذا لا زكاة عليه باعتبار أن الشركات تُزكِّي، فجميع الشركات المساهمة في المملكة عندنا تُخْرَج منها الزكاة، يعني: تُؤخَذ منها الزكاة، جميع الشركات المساهمة تُؤخذ منها الزكاة، تأخذها مصلحة الزكاة والدَّخْل وتَصُبُّها في حساب الضمان الاجتماعي مباشرةً.

فإذا كنتَ مُستثمرًا -يعني: تركتَ هذه الأسهم، فلا تبيع فيها ولا تشتري- فلا زكاة عليك باعتبار أن الشركة تُزكِّي.

أما إذا كنتَ مُضاربًا -تبيع وتشتري فيها- فهذه عروضُ تجارةٍ لا بد أن تُزكِّيها، فتُقيِّمها عند تمام الحول، تُقيِّم كم عندك في المحفظة وتُخْرِج زكاتَه.

فمثلًا: إذا كان عندك في المحفظة عشرة آلافٍ، تُخْرِج زكاة عشرة آلافٍ، وهكذا.

إذن نقول للأخ السائل: إن كنتَ مُستثمرًا -لا تبيع ولا تشتري فيها- فلا زكاة عليك، أما إذا كنتَ مُضارِبًا -تبيع وتشتري- فعليك الزكاة.

السؤال: ما الراجح في حَفِّ الشَّارب؟

الجواب: الراجح أنه يُحَفُّ أو يُقَصُّ من غير حَلْقٍ؛ لأن النبي قال: أَحْفُوا الشَّوارب [26]، قُصُّوا الشوارب [27]، ولم يُرِد: احلقوا الشوارب، بل إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: “وَدِدْتُ أن يُؤدَّبَ مَن يحلق شاربه”، وقال: “حَلْقُ الشارب عندي مُثْلَةٌ”.

فالقول الراجح: أن الشارب لا يُحْلَق، وإنما يُحَفُّ أو يُقَصُّ.

السؤال: هل يجب الجهر بالقراءة عند الصلاة وحدي؟

الجواب: إذا كنتَ تُصلِّي وحدك فالأمر في هذا واسعٌ -يعني مراد الأخ: في الصلاة الجهرية، مثلًا: أراد أن يصلي صلاة المغرب أو العشاء- فإن شئتَ فاجْهَرْ، وإن شئتَ فأَسِرَّ، الأمر في هذا واسعٌ، وافعلْ ما هو الأصلح لقلبك.

ومثل ذلك صلاة الليل أيضًا، اختَرْ من هذا -يعني: من الإِسْرار أو الجهر- ما هو الأصلح لقلبك.

السؤال: ما حكم الصلاة في هذا الجامع بين السواري؟

الجواب: الصلاة بين السَّواري من غير حاجةٍ مكروهةٌ، لكنها صحيحةٌ، أما عند الحاجة فتَزُول الكراهة.

فمثلًا: في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمساجد التي تزدحم، كهذا المسجد -مثلًا- لو كان يمتلئ يوم الجمعة؛ فلا بأس بالصلاة بين السواري -يعني: الأعمدة- وتزول الكراهة.

أما عند عدم الحاجة فكان السلف يتَّقُون الصلاة بين السَّواري، فالصلاة بين السواري عند عدم الحاجة مكروهةٌ.

السؤال: ما علاج الوسوسة في الصلاة؟

الجواب: الوساوس في الصلاة من الشيطان الرجيم، فقد جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ.

يعني: هذا السؤال نفسه سُئل عنه النبي ، فماذا قال؟

قال : ذاك شيطانٌ يُقال له: خَنْزَب، فإذا أحسستَه فتعوذ بالله منه، واتْفُلْ على يسارك ثلاثًا، فقال: ففعلتُ ذلك فأذهبه الله عني [28]. رواه مسلم.

إذن علاج الوساوس: أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، تقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، سواءٌ كنتَ في القيام، أو في الركوع، أو في السجود، أو في أيِّ موضعٍ من مواضع الصلاة.

وهذه الاستعاذة من جنس الذكر، يعني: لا تَضُرُّ؛ لأنها ليست من جنس كلام الآدميين.

فمتى وجدتَ الوساوس استَعِذْ بالله من الشيطان الرجيم، حتى لو كنتَ خارج الصلاة، فأحيانًا تَهْجم الوساوس والأفكار على الإنسان خارج الصلاة، قل: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، وجرِّب ذلك، وستجد أن هذه الوساوس تنقشع عنك مباشرةً، أو: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ۝ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98]؛ لأن الشيطان عدوٌّ للإنسان، فإذا رآه قد كبَّر في صلاته -كما يقول ابن القيم وغيره- غار منه، يغار: كيف يُناجي ربَّه؟! فيُقبل عليه بخَيْلِه ورَجِلِه، حتى ربما نسي الشيء وأَيِسَ منه فيُذكِّره إياه.

وأيضًا مع الاستعاذة بالله من الشيطان: المجاهدة؛ مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، فالخشوع في الصلاة يحتاج إلى مجاهدةٍ، لكن من رحمة الله تعالى أنَّ الخشوع ليس واجبًا، وإنما هو مُستحبٌّ، يعني: لو صلَّيتَ صلاةً لم تخشع فيها فلستَ بآثِمٍ، ولا يُشْرَع أن تُعِيدَ هذه الصلاة، وتَحْصُل بها براءةُ الذِّمَّة؛ لأنها صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، لكن ليس لك من الأجر إلا بمقدار ما عَقَلْتَ منها: فإن عقلتَ الربع فلك الربع، وإن عقلتَ نصف الصلاة فلك النصف، وإن عقلتَ ثلاثة أرباعها فلك ثلاثة أرباع الأجر، وإن عقلتَ الصلاة كاملةً فلك الأجر كاملًا، ولكن قَلَّ في الناس مَن يَعْقِل الصلاة كاملةً.

وقد قال بعضُ أهل العلم: “إن الصلاة التي يخشع فيها الإنسانُ الخشوعَ الكامل تُكفِّر حتى كبائِرَ الذنوب”، واستدلوا بقول النبي : أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرَّاتٍ، هل يبقى من دَرَنِه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من دَرَنه شيءٌ. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا [29].

فإذا أردتَ أن تعرف: هل خَشَعْتَ في صلاتك أم لا؟ فانظر إلى مستوى الإيمان عندك قبل الصلاة وبعدها؛ فإن وجدتَ أن مستوى الإيمان عندك بعد الصلاة قد زاد فهذا دليلٌ على أنك قد خشعتَ في الصلاة، أما إذا وجدتَ أن حالك بعد الصلاة مثل حالك قبل الصلاة فمعنى ذلك: أن الصلاة ليس لها أثرٌ، ولم تخشع في صلاتك.

السؤال: هذا يقول: أرجو توجيه نصيحةٍ لكل رَبِّ أسرةٍ بأن يحرص على اختيار الرُّفْقة لأبنائه.

الجواب: سبق أن تكلَّمنا في أثناء المحاضرة على هذا، فهذه المسألة -اختيار الرُّفقة واختيار الجُلساء- من الأمور المهمة.

تجد بعض الناس، يعني: شابًّا صالحًا، خيِّرًا، حَيِيًّا، لكن يُبْتَلَى بأصحاب سوءٍ؛ فيَجرُّونه للسُّوء: إما أن يجروه إلى المُخدرات، أو يقع في أمورٍ أخلاقيةٍ، أو يذهب إلى جماعات التكفير، ونحو ذلك، كل ذلك بسبب الصُّحبة.

ولذلك فعلى الأب أن يهتمَّ بابنه، وأن يحرص على اختيار الجُلَساء الصالحين له، وإذا وجد أن ابنه يُجالِس أناسًا غير صالحين فيمنعه من ذلك، ويُبعده عنهم، فكما يقال: إن الصاحِب ساحِبٌ، والجليس له أثرٌ على جليسه، أثرٌ كبيرٌ.

فعلى الأب أن يحرص على اختيار الجُلساء الصالحين لابنه، وأن يُشجِّعَه على مُجالستهم، وعلى الابتعاد عن الجُلساء السيئين.

لعلنا نكتفي بهذا القدر، ونعتذر للإخوة الذين لم يتسع الوقت للإجابة عن أسئلتهم.

ونسأل الله للجميع الفقه في الدِّين، والعلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يُحِبُّ ويرضى.

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: وختامًا نسأل الله العليَّ العظيم أن يَجْزِي فضيلة الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان -عضو هيئة كبار العلماء- خير الجزاء على ما قدَّمه، ونسأل الله العليَّ العظيم أن يجزل له الأجر والمثوبة.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 3606، ومسلم: 1847.
^2 روى البخاري: 1036، ومسلم: 157 عن أبي هريرة  قال: قال النبي : لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْج، وهو القتل، القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض.
^3 رواه أبو داود: 4596، والترمذي: 2640 دون قوله: كلُّها في النار إلا واحدةً … إلى آخر الحديث، وروى هذه الزيادة الطبراني في “المعجم الصغير”: 724.
^4 رواه البخاري: 3344، ومسلم: 1064.
^5 رواه الترمذي: 2516، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 2669.
^6 رواه الطبراني في “المعجم الأوسط”: 9432 دون قوله: يا مُصرِّف القلوب، صرِّفْ قلبي على طاعتك، وروى هذه الزيادة مسلم: 2654.
^7, ^20, ^21 سبق تخريجه.
^8 رواه مسلم: 1848.
^9 رواه مسلم: 1852.
^10 رواه البخاري: 5534، ومسلم: 2628.
^11 رواه ابن أبي شيبة: 32532، والحاكم: 4554.
^12 رواه مسلم: 2963.
^13 رواه أبو داود: 43190، وأحمد: 19875.
^14 رواه مسلم: 747.
^15 رواه البخاري: 3481، ومسلم: 2756.
^16 رواه مسلم: 2812.
^17 رواه مسلم: 54.
^18 رواه البخاري: 6667، ومسلم: 397.
^19 رواه البخاري: 6077، ومسلم: 2560.
^22 رواه مسلم: 2581.
^23 رواه مسلم: 2630.
^24 رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 788، والبيهقي في “شعب الإيمان”: 3347.
^25 رواه البخاري: 4388، ومسلم: 52.
^26 رواه البخاري: 5892، ومسلم: 259.
^27 رواه أحمد: 7132.
^28 رواه مسلم: 2203.
^29 رواه البخاري: 528، ومسلم: 667.
مواد ذات صلة
  • عناصر المادةحديث حذيفة  في التحذير من الفتنضعف الإنسان أمام الفتنأبرز أسباب الفتنالاستشراف للفتنةاتباع الهوىضعف التقوىفتنة التكفيرتحصين الشباب من فتنة…

  • عناصر المادةجزاء محبة الله للعبدمعنى محبة الله ومنزلتهاصفات من يحبهم الله كما في القرآن الكريمصفة الإحسانفيم يكون الإحسان؟صفة الصبرحقيقة الصبرصفة…