النوازل الفقهية: من نازلة موت الدماغ إلى نازلة التسبيح بالمسبحة الإلكترونية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه ، واتبع سنته إلى يوم الدين.
نستكمل الحديث عن النوازل، وكنا قد وصلنا بعدما أخذنا مقدمة في النوازل، وتكلمنا عن النازلة الأولى وهو التصوير الفوتوغرافي.
ننتقل للكلام عن النازلة الثانية وهي موت الدماغ.
موت الدماغ في الحقيقة هي من أشكل النوازل، وأكثرها تعقيدا، ومما يدل لهذا أنها تكاد تكون المسألة الوحيدة التي اختلفت فيها المجامع الفقهية، وهذه القضية قضية موت الدماغ، حضرت فيها عدة مؤتمرات يمكن أربع أو خمس مؤتمرات تجمع أطباء وفقهاء، وفي كل مرة أحضر تزداد المسألة عندي غموضا، فهي مسألة معقدة في الحقيقة ومشكلة، وسأبين لكم وجه الإشكال فيها.
أولا: ما معنى موت الدماغ؟
موت الدماغ معناه توقف الدماغ عن العمل وذلك بتعطل الدماغ عن القيام بوظائفه الحقيقية، فيحصل موت الدماغ، وعندهم الأطباء تفاصيل في حقيقة موت الدماغ، المهم الذي يهمنا هو أنه إذا حكم الأطباء على هذا المريض بأنه قد مات دماغيا، ولا تزال عليه الأجهزة، المنفسة، وأجهزة القلب، وبقية الأجهزة لا تزال عليه، لكن حكم الأطباء أنه قد مات دماغيا هل يعتبر هذا موتا بالمعنى الشرعي أو لا يعتبر، ويترتب على هذا إذا قلنا إنه موت بالمعنى الشرعي فيجوز نقل أعضاءه، وإذا قلنا ليس بموت بالمعنى الشرعي فلا يجوز نقل أعضاءه، ونقل الأعضاء لا يمكن إلا من الميت دماغيا حتى الآن، الميت وفاة طبيعية ما يمكن نقل أعضاءه إلا في حالة واحدة لو مات موتا طبيعيا، ثم مباشرة نقلت أعضاءه في نفس اللحظة، إلا أن بعض الأطباء استثنى القرنية يقول: يمكن أن تنقل خلال ثلاثين دقيقة من الوفاة الطبيعية وبعدها ما يمكن، أي: أن أعضاء الإنسان تتلف بالوفاة الطبيعية، لا يمكن نقلها، إذاً موت الدماغ هو المصدر الوحيد لنقل الأعضاء وهذه هي المشكلة.
إذا قلنا بأن الميت دماغيا ميت بالمعنى الشرعي يجوز نقل أعضاءه، وإذا قلنا ليس ميت بالمعنى الشرعي لا يجوز نقل الأعضاء، سبب الخلاف في كون الميت دماغيا ميتا بالمعنى الشرعي أم لا؟ هو الخلاف في تعريف الموت، سبحان الله الموت تكاد هي الحقيقة التي يجمع عليها بنو آدم، لكن مع ذلك مختلفون في تعريفه، ما معنى الموت؟
كثير من الأطباء يعرف الموت بأنه ألا عودة للحياة، ولكن هذا التعريف ليس تعريفا صحيحا بالمعنى الشرعي.
تعريف الموت بالمعنى الشرعي: هو مفارقة الروح للبدن، ولذلك نجد كثير من الأطباء يقولون: إن الميت دماغيا هو ميت، لكن يقصدون بذلك التعريف الطبي للموت، بمعنى ألا عودة للحياة، ولكن عندما نقول: إن هذا التعريف غير صحيح، وأن الموت هو مفارقة الروح للبدن، هنا يتوقفون يقولون: ما ندري عن الروح.
وهناك اتجاهان للفقهاء المعاصرين باعتبار موت الدماغ موتا بالمعنى الشرعي:
هناك اتجاه يرى أن الميت دماغيا أنه ميت بالمعنى الشرعي، وإلى هذا ذهب مجمع الفقه الإسلامي الدولي بمنظمة التعاون الإسلامي قالوا: لأنه لا يمكن أن يعود للحياة، ولا نجد ولا واحدا من مليار أن إنسان حكم عليه بأنه قد مات موتا دماغيا ورجع للحياة وعاش، اعترض عليهم وقيل: إنه وجد هناك حالات لأناس قد ماتوا دماغيا، ثم عاشوا، فأجابوا عن ذلك قالوا: إن هؤلاء عندهم خطأ في التشخيص الذي شخصهم بأنهم ميتون دماغيا قد أخطأ، وإلا لو كانوا ميتين دماغيا ولم يكن هناك خطأ في التشخيص لا يمكن أن يعودوا للحياة، فيحتاج هنا نسمع حكايات وقصص ربما أن بعضكم قصص من هذا، يقول: أنا سمعت أو رأيت بأن فلانا حكم عليه بأنه ميت دماغيا، وشفاه الله تعالى وعائد يعيش بين الناس، فلا نستطيع أن نجزم أنه بالفعل كان ميتا دماغيا ثم عاش إلا إذا تأكدنا من صحة التشخيص؛ لأن المشكلة الآن هي الخطأ في التشخيص هكذا أجابوا، ويقولون: أصحاب هذا الاتجاه يقولون: إن حياة هذا الإنسان هي حياة نباتية، بل قال بعضهم: وأنا سمعت في أحد المؤتمرات قال: أن لو أتينا بإنسان وقطعنا رأسه ووضعنا عليه هذه الأجهزة لاستمر قلبه ينبض، واستمرت جميع أعضائه بالحياة مع أنه مقطوع الرأس، فيقولون: هذه حياة نباتية ليست حياة بالمعنى الشرعي، هذا وجهة أصحاب هذا الاتجاه.
يقابله الاتجاه الآخر يقولون: إن موت الدماغ ليس موتا بالمعنى الشرعي، وهذا ما ذهب إليه المجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي يقولون: لأن مقومات الحياة موجودة فيه، فعندما تقاس حرارته نجد أنها سبعة وثلاثين درجة، ونجد أنه يتنفس، ونجد لو قسنا الضغط عنده نجده طبيعي، ويتبول، ويتغوط، كيف نقول: أن هذا ميت، فمقومات الحياة موجودة عنده، الحقيقة أن هذه القضية مشكلة، إذا قلنا: إنه موت بالمعنى الشرعي لا يجوز نقل الأعضاء، نقل الأعضاء فيه مصالح عظيمة، هناك أناس يعيشون الآن على أعضاء غيرهم، أنا أعرف رجلا له الآن ما يقارب ثلاثين عاما يعيش على كبد مزروعة، منقولة من ميت دماغيا، وغيرهم وغيرهم، فيها مصالح عظيمة، إذ قلنا بأن الميت دماغيا أنه ليس ميتا بالمعنى الشرعي لا يجوز نقل الأعضاء، إذا قلنا أيضا بأن الميت دماغيا إنه موت بالمعنى الشرعي يترتب على هذا أنه يجوز أن تقسم تركته، ويجوز أن تتزوج زوجته بعد انقضاء العدة، وأذكر في أحد اللقاءات العلمية كان هناك أحد المشايخ تبنى القول بأن الميت دماغيا أنه ميت بالمعنى الشرعي، فطرحت عليه هذا السؤال، قلت له: لو كان أخوك هو الميت دماغيا هل تقبل بأن تقسم تركته، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، فسكت ثم قال: نعم التزم بهذا، هو التزام نظري لكن ربما عمليا هنا اختلف الرأي، لكن هذا لازم قوي في الحقيقة.
أنا متوقف حقيقة في هذه المسألة لأنها مشكلة، سبب الإشكال فيها الحقيقة لماذا لم تحسب على مر السنين، وعلى كثرة اللقاءات العلمية، والمؤتمرات، والبحث، أثريت بالبحث لكن مع ذلك لم تحسم ما هو السبب؟
السبب لأن الموت بالمعنى الشرعي هو مفارقة الروح للبدن، والروح ليست من عالم المادة هي من عالم من آخر، لا يستطيع البشر معرفته، فلا ندري هل الروح الآن موجودة في الميت دماغيا أو أنها غير موجودة، ولا يمكن من خلال المعامل الطبية، والأجهزة، والتقنية الحديثة أن نعرف هل الروح موجودة أو غير موجودة لأن الروح لا تخضع لعالم المادة ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ هذا هو السبب، سبب الإشكال تعلق الموضوع بالروح، الروح لا ندري عنها نحن البشر، لا نعرف حقيقتها، ولا ندري عنها، من عالم آخر، من أمر ربي، ولذلك المسألة حقيقة مشكلة، طرحت مقترح على وزارة الصحة بأن تعقد لقاء عن علامات مفارقة الروح للبدن وتطبيقها عمليا، وعقد هذا المؤتمر، أو هذا اللقاء في الرياض ولكن لم نجد علامة واحدة نستطيع أن نقطع بها الحقيقة، كل حتى ما ذكره الفقهاء محل ظن، برودة الأعضاء، ما ذكروه من ارتخاء العضلات، ليست علامات قاطعة على مفارقة الروح للبدن، ما وجدنا ولا علامة واحدة تدل دلالة قاطعة على مفارقة الروح للبدن، كل العلامات تتبعناها ما وجدنا فيها ولا علامة واحدة، فالمسألة مشكلة، طرح أحد المشايخ في أحد اللقاءات قال: لماذا لا نقول: بتبعيض الأحكام، فنقول: هو ليس موتا بالمعنى الشرعي، ونجيز في الوقت نفسه نقل الأعضاء، وهذا طرح له وجاهته لكن يحتاج أيضا يرد عليه إشكالات، إذا قلنا له موت بالمعنى الشرعي كيف نجيز نقل الأعضاء؛ لأنه موت بالمعنى الشرعي معنى ذلك أن أعضاءه ستأخذ وهو حي، يعني يقصب وهو حي، تؤخذ رئته وهو حي، تؤخذ كبده وهو حي، هذا مشكل، هذا هو الإشكال في المسألة، أنا متوقف في هذه المسألة كما كان شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله – هو متوقف فيها؛ لأن الإشكال فيها كبير، والأمور المترتبة عليها أيضا أكبر، وما دام أن المسألة خلافية الحمد لله، هذا الخلاف يجعل فيها سعة، لكن لابد لطالب علم أن يتصور المسألة، وتصور الإشكال فيها، والأمور المترتبة عليها.
ولعلي أكتفي بهذا القدر في الحديث عن هذه النازلة، وإلا الكلام عنها أطول مما ذكرت.
ننتقل لمسألة أخرى هي قريبة من هذه المسألة وهي مسألة رفع أجهزة الإنعاش عن الميئوس من شفاءه.
رفع أجهزة الإنعاش أولا: هل التداوي واجب لأن وضع أجهزة الإنعاش هي نوع من المداواة، التداوي هل هو واجب؟
التداوي ليس واجبا، قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله - : «لا أعلم سالفا أوجب التداوي» لو أراد إنسان أنه ما يتداوى لا يأثم إلا إذا قطع بأنه سيهلك لو لم يتداوى، فيكون هذا من باب إلقاء النفس في التهلكة، لكن إذا كان الدواء ظني قد يشفى أو لا يشفى لا يلزمه أن يتداوى، ولذلك تجد بعض كبار السن مثلا يرفض الدواء، ينبغي عدم إجباره ما دام عقله معه، قد جاء في صحيح البخاري وغيره أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في مرض موته أرادوا أن يعطوه لدودا يعني نوع من الدواء في الفم، فأشار إليهم أن لا، كان في شدة المرض، فتشاور عائشة ومن حولها قالوا: هو لا يريد من باب كراهية المريض للدواء، نريد أن نعطيه الدواء، مثل: ما يكون عندك قريب مريض تقول: أريد أن أغصبه على الدواء، أو أجبره على الدواء، فقالوا: من باب كراهية المريض للدواء، وهو – عليه الصلاة والسلام – يشير لهم أن لا لا، فأعطوه هذا الدواء اللدود، فلما أفاق – عليه الصلاة والسلام – أمر بأن يقتص من جميع من اشترك في إعطاءه هذا الدواء وقال: يدخل اللدود في فم الجميع إلا العباس فإنه لم يشهد قط، وبالفعل اقتص منهم جميعا، وهذا الحقيقة درس عملي من النبي – عليه الصلاة والسلام – بأن الإنسان حر إذا قال: ما أريد الدواء لا تجبره على الدواء، الإنسان أهم شيء أن يكون عقله معه، إذا كان عقله معه هو صاحب القرار، هو يقولك: لا أريد هذا لماذا تجبره؟ فأمر النبي – عليه الصلاة والسلام – أن يقتص منهم جميعا إلا العباس، والقصة في صحيح البخاري، إذا التداوي ليس واجبا، وضع هذه الأجهزة إذا كان على إنسان غير ميئوس منه لا شك أن فيها إنقاذ لحياته، فهنا يكون هذا واجبا لأجل الإنقاذ، لكن إذا كان هذا المريض ميئوسا من شفائه إما ميت دماغيا، أو معه مثلا مرض قطع الأطباء بأن الله أجرى السنن بأن هذا لا يشفى، وهذه الأجهزة تستنفذ مالا، وقتا من الأطباء، وأمور كثيرة، فهنا هل يجب بقاء هذه الأجهزة أو يجوز رفع هذه الأجهزة عن هذا الميئوس من شفائه؟
هناك اتجاهان للعلماء المعاصرين من أهل العلم من قال: إنها تبقى هذه الأجهزة، ولكن أثير على هذا اعتراض، طيب إذا بقيت من يتحمل تكلفة هذه الأجهزة، وهي مكلفة؟ وبعض دول العالم الإسلامي دول ليست غنية حتى يقوم بها بيت المال، وربما أيضا حتى بيت المال يعجز عنها، يعني حتى في الدول الغنية ربما أيضا يكون في هذا نفقات كثيرة، وأموال عظيمة تستنفذ، وربما أن أقارب هذا المتوفى أيضا يعجزون عن التكلفة المالية، فمن يقوم بها؟
الاتجاه الثاني: هو جواز رفع أجهزة الإنعاش عن الميئوس من شفائه بشرط القطع من قبل ثلاثة أطباء فأكثر بأنه ميئوس من شفائه وإلى هذا ذهب المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، وأيضا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله – وهذا القول هو الأظهر، أنه إذا قطع الأطباء بأنه ميئوس من شفائه فيجوز رفع الأجهزة عنه لأن التداوي أصلا ليس واجبا، وليس أيضا هناك إنقاذ لحياته حتى يقال: إن هذه الأجهزة تنقذ حياته، هو ميئوس من شفائه أصلا، فبقاء هذه الأجهزة عليه ليس له كبير فائدة، ثم أيضا هو يترتب على ذلك أموال عظيمة تستنفذ، يعني كان سؤال اللجنة الدائمة أن هناك رجل من أفريقيا وضعت عليه هذه الأجهزة، وأنه يكلف المستشفى شهريا ثلاثة عشر ألف ريال، فمن يتحمل هذه التكلفة؟
الاتجاه الثاني هو الأقرب أن رفع الأجهزة يجوز في هذه الحال، وهذا في الحقيقة ليس قتلا له، وإنما إبعاد لوسيلة كان يعتقد أنها وسيلة إنقاذ ثم تبين أنها وسيلة إنقاذ، فليس في هذه الأجهزة إنقاذ لحياته لأنه ميئوس من شفائه، وهم لم يتعمدوا أن يقتلوه وإنما هذه الوسيلة كان يستخدمها لإنقاذه قيل إنها ليس لها فائدة في الإنقاذ، فرفعوا هذه الوسيلة، فهذا هو الأظهر لكن لا يستعجل في هذا، وإنما لابد أن يقطع بذلك ثلاثة أطباء فأكثر بأنه ميئوس من شفائه، هذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة، ينبغي عدم الخلط بينهما، هذه القضية تختلف عن القضية السابقة هي موت الدماغ وما يترتب عليها من آثار وأحكام، هذه مسألة مجرد رفع الأجهزة، رأيت بعض طلبة العلم يخلط بين المسألتين، رفع الأجهزة أمرها سهلة ليس الخلاف فيها يعني قوي كالخلاف في مسألة موت الدماغ، فقط فيه دليل لمن أجاز رفع الأجهزة لم أذكره، يستدل بعض العلماء بقصة عمر لما طعن سقوه لبنا، فخرج اللبن من جرحه، فلما رأى الصحابة أن اللبن قد خرج من جرحه، علموا أنه ميت، وأنه لا فائدة من مداواته فتركوه ولم يداووه، يعني استدل بهذا بعض العلماء المعاصرين على أنه لا يجب وضع الأجهزة على من كان ميئوس منه، يقول: لو كان واجبا لسعى الصحابة لإنقاذ عمر ومداواته، لكن قال الصحابة: نسقيه لبنا فإن خرج اللبن من جرحه علمنا أنه لن يعيش، فسقوه اللبن فرأوا أن اللبن خرج من الجرح فأدركوا أنه لن يعيش، فلذلك تركوا مداواته، لم يسعوا لمداواته مع أنه كان يوجد أطباء في وقتهم، لكن الصحابة رأوا أنه ميئوس من مداواته لكون اللبن خرج من الجرح.
ننتقل بعد ذلك لنازلة أخرى من النوازل وهي الأطعمة والأشربة المشتملة على نسبة كحول مستهلكة.
أولا: الكحول هو أصله كلمة غول، وغول وردت في القرآن لما ذكر الله تعالى خمر الجنة قال: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ فالغول هو الكحول، والكحول هو أصل مادة الإسكار، يسمى الكحول الإثيلي هو أصل مادة الإسكار، وأما الكحول الميثيلي فهي مادة سامة، فبينهما فرق، الخمر وجميع المسكرات أصل الإسكار فيها هي مادة الكحول الإثيلي، الكحول الموجود في الأطعمة والأشربة يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تكون نسبة الكحول كثيرة بحيث يحصل الإسكار لمن تناول هذا المطعوم أو المشروب، فهذا محرم بالإجماع، وهذا خمر، ومن كبائر استعماله أو شربه من كبائر الذنوب.
القسم الثاني: أن تكون نسبة الكحول قليلة لا تسكر لكن كثيرها يسكر، فهذه أيضا محرمة، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وهي محرمة عند جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة خلاف الحنفية الذين حصروا ذلك في عصير العنب، وقالوا: غير عصير العنب يجوز تناول القليل الذي لا يسكر، والصواب: ما عليه الجمهور من أن القليل الذي يسكر كثيره أن هذا القليل حرام سواء أكان من عصير العنب أو من غيره؛ لأن الخمر هو كل ما خمر العقل، كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وغيره، فالقول بالتفريق بين عصير العنب وغيره قول ضعيف.
القسم الثالث: وهي المقصودة هنا في هذا البحث أن تكون نسبة الكحول يسيرة جدا، وكثيرها لا يسكر، وهي ما تسمى بالمستهلكة، وهذه توجد الآن في كثير من المطعومات، والمشروبات، كثير من المعلبات لا تخلو من نسبة كحول يسيرة، كثير من العصائر لا تخلو من هذه النسبة، حتى الألبان الآن التي تحفظ في مدة طويلة لا تخلو من هذه النسبة، الأدوية، معظم الأدوية لا تخلو من هذه النسبة؛ لأن الصناعة الحديثة تفضل الكحول الإثيلي يعتبرونه أفضل مذيب، وأيضا يساعد في الحفظ، ويفضلونه على غيره وأصبحت إذاً هذه الكحول بالنسب اليسيرة موجودة الآن في واقعنا المعاصر في معظم المطعومات، ومعظم المشروبات، ما حكمها؟
نقول: هذه لا حرج فيها، وعلى مقتضى كلام العلماء المتقدمين يعني أنه لا حرج فيها بالإجماع، نقل ابن تيمية – رحمه الله – إجماع في مسألة شبيهة بهذه المسألة ويسميها بعض العلماء هذه المسألة بنظرية الاستهلاك، يقولون: لأن هذه الكحول هي نسبة يسيرة جدا فهي كالمستهلكة، كالنجاسة اليسيرة إذا وقعت في ماء كثير، لو بال إنسان في البحر هل ينجس البحر؟ لو بال في بركة كبيرة هل تنجس البركة؟ فالنجاسة اليسيرة في الماء القليل هي مستهلكة، لا أثر لها، هكذا أيضا نسبة الكحول اليسيرة جدا ليس لها أثر، وتكون مستهلكة في هذا المطعوم، أو المشروب.
فإن قال قائل: أليس النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»؟
نقول: صحيح، ونحن نلتزم بهذا، لكن هذه لا يسكر كثيرها، مهما أكثر الإنسان منها لا يحصل له الإسكار، فلو أنك أخذت عصير برتقال الآن الذي يباع في البقالات، مهما أكثرت من شرب البرتقال ما يحصل إسكار، فكثيرها لا يسكر، فهي نسبة مستهلكة، لا حرج فيها، هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم، ولم أقف على أحد من كبار أهل العلم المعتبرين أنه منع من هذه المسألة، فتكاد تكون محل إجماع بين جميع العلماء، لكن أقول هذه المسألة لأن بعض الناس عندما يقرأ مكونات أحيانا بعض المطعومات، أو المشروبات يجد مثلا أن فيها نسبة كحول، نسبة كذا، ربما يثير إشكالية على الناس كيف تتناول هذا الشيء وفيه نسبة كحول؟
نقول: ما دام أنها نسبة مستهلكة يسيرة جدا، هذه معفو عنها، ولا حرج فيها.
شراب الشعير الذي يسمى عندنا بالبيرة مع أن الأفضل عدم تسميته البيرة لأنهم يقول: ترجمة غير ترجمة، ترجمة لكلمة خمر أو نحوها، فالأحسن أن تسميه شراب الشعير موجود عندنا في المملكة هذه نسبة الكحول أيضا يسيرة جدا، وهي تصل فاصلة صفر خمسة هل الورع ترك شربها؟ لا ليس الورع ترك شربها، إذا كنت ستتورع من شربها تورع أيضا من شرب عصير البرتقال الذي نسبة الكحول فيه أكثر من شراب الشعير، عصير البرتقال فاصلة صفر ثمانية بينما شراب الشعير فاصلة صفر خمسة كما أفاد بذلك المختصون في هيئة الغذاء والدواء، هذه كلها نسب مستهلكة، ما دامت النسبة أقل من واحد بالمائة فهي من النسب اليسيرة المستهلكة، وعندنا ولله الحمد هنا في المملكة العربية السعودية هيئة الغذاء والدواء عندها رقابة صارمة على جميع المطعومات والمشروبات التي تدخل، لا يسمحون بدخول أي مطعوم أو مشروب به نسبة كحول قليلة فضلا عن أن تكون كثيرة، لكن النسبة المستهلكة عندهم فتوى بأنه لا حرج فيها، وكما ذكرت بنسب يسيرة جدا، فاصلة صفر خمسة، فاصلة صفر ثمانية، أقل من نصف واحد بالمائة، أقل من خمسين بالمائة من فاصلة خمسة صفر بالمائة، هي ولله الحمد تخضع لمعايير صارمة في هذا.
هذه النسبة نسبة الكحول اليسيرة تدخل في كل شيء، في معظم الأشياء، في العطورات تكون النسبة مرتفعة، حتى دهن العود فيه نسبة يسيرة؛ لأن الصناعة الحديثة أدخلت الكحول الإثيلي في معظم المصنوعات لأنهم يعتبرونها أفضل مادة، لكن هذا مع هذا التقرير الذي ذكرت يرتفع الحرج والحمد لله.
ننتقل للحديث عن نازلة أخرى وهي اللحوم المستوردة.
اللحوم المستوردة يمكن تقسيمها إلى قسمين:
لحوم مستوردة من بلاد كفار غير أهل الكتاب.
ولحوم مستوردة من بلاد كفار هم من أهل الكتاب.
أما المستوردة من كفار من غير أهل البلاد فهذا واضح أنها محرمة ولا تجوز، إذا كان الذابح غير مسلم، وهو أيضا غير كتابي ليس يهوديا ولا نصرانيا كأن يكون هندوسيا، أو بوذيا، فلا تحل ذبيحته بالإجماع.
أما إذا كانت اللحوم من بلاد هي أهل كتاب مثل مثلا: البرازيل، أو فرنسا، الدواجن التي تستورد لنا من البرازيل، أو من فرنسا، أو من غيرها من البلاد التي هي من أهل الكتاب، هل تحل أم لا؟
الأصل هو حل ذبيحة الكتابي اليهودي أو النصراني كما قال الله تعالى : ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ قال ابن عباس: «الطعام هو الذبائح» وعلى هذا جمهور المفسرين أن المقصود بالطعام الذبائح، لكن الإشكالية في هذه الذبائح واللحوم المستوردة هو ما أثير من أنهم يقومون بالصعق، يعني يقومون بذبحها عن طريق الصعق، وهذه قضية أثيرت من قديم من أكثر من أربعين عاما وهي تثار هذه المسألة، والأقوال متضاربة، هناك من يقول: إنه بالفعل يذبحونها بطريق الصعق، وهناك لجان ذهبت ورأوا أنهم لا يذبحونها بطريق الصعق، لكن الذين يقولون: أنها تذبح بالصعق يقولون: إن أصحاب تلك المصانع إذا علموا بقدوم لجان للمراقبة والنظر وكذا يغيرون ويفعلون كما يريد المسلمون، يعني لا يذبحونه بالصعق، لكن ما إن تذهب هذه اللجان وتغادر إلا ويعودون كما كانوا، الحقيقة الآراء فيها متضاربة وما دام الآراء فيها متضاربة نبقى على الأصل وهو الحل، ومما يدل لهذا حديث عائشة – رضي الله عنها – أن قوما أتوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، إن أناس يأتوننا بلحم، ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – : «سموا أنتم وكلوا» رواه البخاري، فدل هذا على أن المهم أن تأتي بالذبائح واللحوم من أهل الكتاب، وأنه ينبغي ألا نفتش، وألا نسأل، وألا ندقق وإنما المطلوب أن نفعل ما أمرنا بفعله وهو التسمية عند الأكل، وقوله: «سموا أنتم وكلوا» فيه نوع من التوبيخ لهم لماذا تسألون؟ ابن على الأصل، سم أنت وكل، وهذا يدل على أننا إذا جهلنا حال ذبائح أهل الكتاب أننا نبنيه على الأصل وهو الحل والإباحة، فنقول: إذا هذه الدجاج المستورد، واللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب هذه الأصل فيها الحل ما لم نعلم بأنها قد ذبحت بطريق الصعق.
فإن قال قائل: إن بعض هؤلاء النصارى الموجودين في تلك البلدان هم يتسمون بالنصارى لكنهم أشبه بالملاحدة لا يأتون للكنيسة، ولا يأتون بعبادات النصارى، نقول: الانحراف العقدي عند النصارى من قديم، وقت نزول القرآن، الله تعالى يقول: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ والله تعالى ذكر لنا انحرافاتهم، وأحل لنا ذبائحهم، فما دام أنها أمة يهودية أو نصرانية فالأصل هو حل ذبائحهم، هذا هو الأصل، ولا نستطيع أن نحرم حل هذه الذبائح المستوردة من أهل الكتاب إلا بأمر واضح، فنبقى على الأصل وهو حل ذبائح أهل الكتاب، هذا من جهة الحكم، ومن جهة أيضا الفتيا للناس، وأما من جهة الورع لاشك أن الورع ألا تؤكل، ويقتصر الإنسان على الذبائح والدواجن المحلية كي يطمئن على أنها ذبحت بالطريقة الشرعية، لكن هذا مقام الورع، ومقام تبين الحكم شيء، ومقام الورع شيء آخر، فبعض أهل الخير والصلاح يتورعون من باب التورع لكن يقول: لا أحرم على الناس، أنا في خاصة نفسي أتورع، يعني لا أكل إلا الذبائح المحلية التي أطمئن أنها ذبحت بطريقة شرعية، هذا مقام جيد، وهو مقام الورع، مقام عالي، لكن من حيث الحكم لا نستطيع أن نحكم بالتحريم، وليس عندنا شيء ظاهر وواضح للجزم بتحريم هذه الذبائح، وهناك الآن جهود حالية تقوم بها هيئة الغذاء والدواء أيضا للتحقق من هذه المسألة أكثر، وقد كنت مع مسئولين في هيئة الغذاء والدواء الأسبوع الماضي عن هذا الموضوع هناك جهود قائمة - إن شاء الله تعالى - للتحقق من هذه الموضوع، هذا فيما يتعلق بهذه النازلة.
ننتقل بعد ذلك نازلة أخرى وهي الحقوق المعنوية.
الحقوق المعنوية المراد بهذه الحقوق: هي حقوق على شيء غير مادي كحق المؤلف مثلا، والعلامة التجارية، ونحو ذلك، الحقوق المعنوية هي حقوق ترد على شيء غير مادي سواء أكان نتاج ذهنيا من حق المؤلف، وحق المخترع، وحق إنتاج البرامج الحاسوبية، أم كان ثمرة لنشاط يجلب له العملاء، كحق التاجر باسم التجاري، والعلامة التجارية، هذه تسمى الحقوق المعنوية، ولم تبرز هذه الحقوق إلا في الوقت الحاضر، فمثلا حق التأليف ما كان معروفا في العصور الماضية، كان المؤلف يؤلف الكتاب ويود أن غيره استنسخه لأجل نشر العلم، ولم تكن مطابع موجودة وإنما كانت الكتب تستنسخ، فكان المؤلف يفرح أن الناس يستنسخون كتابه حتى ينتشر الكتاب، وحتى يستفيد منه الناس، ولم تكن هذه الحقوق موجودة، لكن لما ظهرت المطابع ظهرت فكرت حقوق المؤلف عند الغرب، ثم انتقلت للمسلمين، واختلف العلماء في النظر لهذه الحقوق فمن العلماء المعاصرين من يرى أن هذه الحقوق أنها غير محترمة، أنها غير محترمة ويقول: إن المسلمين على مدار العصور الماضية ما كانت هذه الحقوق محترمة، وكان العلماء ينقل بعضهم من بعض، وينسخ بعضهم كتب بعض، ولم تكن هذه الحقوق محترمة، ممن اشتهر عنه هذا الرأي الشيخ صالح الحصين، وبعض العلماء المعاصرين.
يقابل ذلك رأي بأن هذه الحقوق محترمة ومصانة، ولا يجوز التعدي عليها بأية صورة حتى في مجال الانتفاع الشخصي والاستخدام الشخصي؛ لأنه حتى في الانتفاع الشخصي يرون أن هذا تعدي على حق إنسان، يقول: هذا كتاب مؤلف فعندما تستفيد منه وأنت لم تشتري هذا الكتاب يكون قد تعديت على حقه، وهذا الكتاب هو ثمرة فكره، وجهده، وتأليفه، من لوازم هذا القول ما يجوز الاستفادة من برامج الحاسوبية مطلقا التي فيها المؤلفات، ومنها المكتبة الشاملة وغيرها، أقول: من لوازم هذا القول، وكل هذه البرامج الحاسوبية لا يستفاد منها لأنها مثلا المكتبة الشاملة فيها آلاف الكتب بحقوق المؤلفين، فيقول: كيف تستفيد منها لا تدري عن رأي المؤلف هل هو راض بأن تستفيد منها فكأنك تعديت على حقه.
القول الثالث: قول وسط بين القولين وهو أن ما كان للاستعمال والاستخدام الشخصي فإنه يجوز، وما كان على سبيل المتاجرة فإنه لا يجوز، وهذا القول من أبرز من ذهب إليه شيخنا عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين – رحمهم الله تعالى – وهو الأقرب في هذه المسألة، إذا كان على سبيل المتاجرة التعدي ظاهر على هذه الحقوق، فإن هذه لاشك أنها في الوقت الحاضر قد أصبحت حقوقا لها قيمة، ولها ثمن، المجامع الفقهية والهيئات العلمية أقرت بأن هذه الحقوق المعنوية حقوق محترمة مصانة شرعا، وإن كانت في الزمن السابق ليست كذلك، لكنها مع التطور والصناعة الحديثة أصبحت هذه الحقوق حقوقا لها قيمة مادية في عرف الناس، وربما تكون قيمتها المادية كبيرة جدا، قد تصل الآلاف أو الملايين خاصة فيما يتعلق بالعلامات التجارية ونحو ذلك، فهي القول المستقل عند أكثر العلماء المعاصرين أنها حقوق محترمة مصانة شرعا، وأما الإفادة منها فإذا كانت على سبيل المتاجرة فلا تجوز لأن هذا فيه تعدي على هذه الحقوق، أما إذا كانت على سبيل الاستعمال الشخصي فلا بأس بذلك؛ لأنه على سبيل الاستعمال الشخصي يجب بذل العلم، ولا يجوز كتمه، ولو أن أحدا طلب منك كتابا أنت مؤلف له وقال: أريد أن أستفيد منه عندك عدة نسخ، وهو بحاجة لهذا الكتاب، يلزمك أن تبذله، وليس لك أن تكتم العلم «ومن سؤل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» والعارية تجب مع غناء المالك وحاجة المستعير على القول الراجح تجب مع غناء المالك وحاجة المستعير كما اختاره ابن تيمية وابن القيم وجمع من المحققين من أهل العلم، والله تعالى ذم من يمنع الماعون ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ ومن منع الماعون منع العارية، ومنع أن الإنسان يمنع أخاه المسلم شيئا هو مستغني عنه، وأخوه محتاج إليه، فإذا كان على سبيل الاستخدام الشخصي الذي يظهر أن هذا لا بأس به، وأننا لا نعظم شأن هذه الحقوق التي لم تكن أصلا معروفة في العصور الماضية، لا نعطيها تعظيما فوق قدرها وإنما نمنع من المتاجرة بها، من أن يأتي إنسان ويتاجر بهذه الحقوق التي هي نتاج غيره، لكن على سبيل استخدام الشخصي لا بأس، لو أردت أن تستخدم المكتبة الشاملة، وتستفيد من كتب الموجودة فيها لا بأس، أو أردت أن تستخدم برامج الحاسوبية وتستفيد من الكتب التي فيها لا حرج، هذا هو القول الأظهر والله أعلم، وعلى هذا هذه البرامج الحاسوبية مثل: المكتبة الشاملة لا يجوز بيعها؛ لأن فيها تعدي على حقوق المؤلفين، لكن هبتها أو وقفها مثلا، أو إعارتها لا بأس، وهذا الآن هو الذي عليه العمل، القائمون على هذه البرامج الحاسوبية مثل: المكتبة الشاملة تجد أنهم يسمحون بتداولها على سبيل الهبة، والتبرع، وعدم المعاوضة، لكن لا تباع المكتبة الشاملة، أو ما كان مثلها من البرامج الحاسوبية لأن بيعها في تعدي على حقوق المؤلفين لكنها تبذل هبة، أو عارية، أو نحو ذلك، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
ننتقل بعد ذلك للكلام عن التسبيح بالمسبحة الإلكترونية.
التسبيح أولا: من العبادات العظيمة التي رتب عليها الأجر الجزيل، ومن قال: «سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال يوما لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة؟ قالوا: يا رسول الله، كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له بها ألف حسنة، أو يحط عنه بها ألف سيئة» مجرد أنك تسبح مائة تسبيحة يكتب لك بها ألف حسنة، هل تأخذ منك وقت وجهد كبيرا؟ عندما تقول: سبحان الله، سبحان الله، كم تأخذ من الوقت؟ مائة مرة، تكسب ألف حسنة، وهذا يدل يا إخوان على أن أبواب الخير كثيرة ومتيسرة إذا قلت: سبحان الله مائة مرة، أحسب كم تأخذ من الوقت؟ لا تزد على خمس دقائق، تحصل ألف حسنة، أو يحط عنك ألف خطيئة، هذا فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، ولهذا روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه كان يسبح في اليوم والليلة ثنتي عشر ألف تسبيحة، فينبغي أن يكثر المسلم من التسبيح، ومن ذكر الله – عز وجل -.
على مر العصور وجدت وسائل تعين على ضبط عدد التسبيح، ومن ذلك المسبحة، وتطورت في وقتنا الحاضر وأصبحت مسبحة الكترونية، سواء كانت عبر أجهزة الجوال مثلا، مجرد أنك تضغط على هذا البرنامج يخرج لك رقم واحد، اثنين، ثلاثة، أو كان عن طريق خاتم التسبيح بأن تضغط عليه فيخرج لك الرقم، أو بغير ذلك من الوسائل، ما حكم هذه الوسائل؟
أولا: هذا نرجع إلى الكلام عن حكم استخدام المسبحة بالتسبيح؟
استخدام المسبحة بالتسبيح عامة العلماء المتقدمين على جوازه، بل لم نقف على من قال بكراهته فضلا عن تحريمه، فضلا عن بدعيته، وقد تتبع بعض الإخوة كلام أهل العلم المتقدمين لم نجد من قال: بتحريم ذلك.
وأما أثر ابن مسعود – رضي الله عنه – أنه رأى أناسا يقول: سبحوا ألفا، هللوا ألفا، سبحوا مائة، فأنكر عليهم وقال: «لقد أتيتم ببدعة ظلماء، أو أنكم فقتم أصحاب محمد علما» فهذا إنكار عليهم على طريقة التعبد، وليس الإنكار على مجرد عد التسبيح، إنكار في الطريقة التي استخدموها لأنهم اجتمعوا وأصبحوا يسبحون بطريقة معينة، سبحوا مائة، هللوا مائة، كذا لكن ليس هذا في تصريح أن ابن مسعود أنكر عد التسبيح، وقد ورد في بعض الآثار التسبيح بالنوى، والحصى، ونحو ذلك وأي فرق بين حبات خرز المسبحة، وبين التسبيح بالنوى والحصى، ويقال: إن أول من قال: بدعية تسبيح المسبحة هو رشيد رضا، وكذلك في الوقت الحاضر الباني، وبكر أبو زيد – رحمهم الله تعالى – جميعا، وأن ناقشت قبل شهر تقريبا رسالة عندنا في كلية الشريعة بعنوان: «الآراء المعاصرة التي حكم عليها بالشذوذ» وصاحب الرسالة ذكر هذه المسألة وتتبع كلام المتقدمين، ولم يجد أحدا من العلماء المتقدمين قال: ببدعية استخدام المسبحة، وأنها فقط وجدت عند بعض العلماء المعاصرين.
والصواب إذا: هو ما عليه عامة أهل العلم من أن التسبيح بالمسبحة أنه جائز ولا بأس به، بأية صورة من صور المسبحة، سواء كانت بحبات الخرز، أو كانت بعداد التسبيح، أو كانت بالمسبحة الالكترونية، أو بأية وسيلة، وهذه وسائل لا يتعبد لله – عز وجل – بهذه الوسائل، لكن هي مجرد ضبط العدد، مثلا: بعض الناس إذا كان في السيارة يقول: إنني إذا عددت بالأصبع أخطأ في الرقم، لكن عندي العداد مباشرة وأنا في السيارة ألمس هذا البرنامج، برنامج عداد التسبيح فيخرج لي رقم 1، 2، 3 أيسر لي من أن أستخدم أصابعي، بل إن بعضهم يقول: إن هذه المسبحة تشجعني على التسبيح، كلما رأيتها سبحت، وربما أنه لو لم تكن موجودة أذهل أو أنسى، فهذا يقول: إنه لا بأس بها، كما ذكرت عن عامة العلماء المتقدمين أنهم لم ينقل عنهم فيما وقفت عليه أن أحد منهم قال: بكراهيتها فضلا عن بدعيتها.
لعلنا نتوقف قليلا ونجيب عن ما تيسر من الأسئلة.